* كتب ملحم كرم:
كان يتكلم بانفعال وصوت يتهدج.. يتقطع ولا ينقطع.. تغشاه اللوعة الحارقة والأسى ملؤه الايمان والرجاء بالخالق لانقاذه مع زوجته والجنين الذي تحمله.
هذا هو اللبناني شربل مزهر (39 عاما) الذي تعلو جسده 1600 قطبة عادت فنسجت وشدت الاف قطع اللحم التي تناثرت ونفذت من جسده الريّان.
ولم أكن اعرف ماذا يريد مني ولكنني سمعت في لهجته صدقاً ومصالحة مع الحق يحرص على ان يقوله كاملا بلا نفخ ولا اسقاط مقاطع ولا تزييف.
وقبل أن يبدأ الكلام علمت أنه لا يبكي لنفسه بل لـ18 شهيداً بينهم طفلاه جاد (7 سنوات ) وريا (4 سنوات) سقطوا في الانفجار الارهابي الدنيء البشع اللا انساني لمجمع المحيا السكني في الرياض.. وزوجته وهو كادا يكونان الضحيتين العشرين لولا رحمة الله ولطفه بعباده.
****
كان يبكي اعجابا بالفتوة والمكرمة تصدران عن شاب كبير هو الذي لم يهرب ولم يلجأ الى المواقع الآمنة والمحمية، بل اقحم نفسه مختارا في المحرقة وساحة الانفجارات فهجم باتجاهها ليساعد انسانا تقطعت اكثر اوصاله وشرايينه ونزف اكثر من نصف دمه ليقترب منه ويسر في اذنيه: (ساعدني لاساعدك) فإنني وحدي لن استطيع القيام بكل الحمل. وظل يكافح ويناضل ويحرق اصابعه ووجهه وجبهته حتى قدر له، في فترة من الزمن مليئة بالمخاطر بسبب الرصاص المنهمر بغزارة نحو المجمع من المرتفعات المقابلة له، من المقاومة المستحيلة، ان يوقف النزيف بعض الشيء بل أن يهدئ من فورته المتواترة الغزيرة.
وهكذا استطاع ان يقرب شربل مزهر من رجال الاسعاف الذين نقلوه الى الطوارئ في مستشفى الملك خالد الجامعي. ثم انبرى عائداً ليكمل ما بدأه باطفاء النيران وكل الناس الذين شهدوا المجزرة، ومراحل المكافحة المؤمنة لتطويقها، الذين لم يهربوا ولكن اكتفوا بالمشاهدة وبالتصوير، وكأنهم أمام مشهد للذكرى لا أمام مأساة انسانية تشكل حافزاً سريعاً على النصرة والانقاذ.
كل هؤلاء اعجبوا بالفتى المقدام الباذل حياته فداء للأحياء المعذبين الملوث بالدماء الزكية وكأنه خارج من عملية استشهادية في فلسطين، فراعهم شبابه وسرعة تنقله وعافيته وايمانه الفاعل المؤمن، وزاد اعجابهم عشرات الاضعاف وهم يعرفون من المقدام ومن باذل الدم والحياة.. انه نجل خادم الحرمين الشريفين الأمير والوزير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز الذي تفوق في مجال هو للمغاوير والفدائيين ورجال الاسعاف والاطفاء، ثم للابطال الذين لا يقميون للحياة وزناً إلا بمقدار ماهي ثمن لمبرة ومكرمة والذين يعتبرون ان الحياة ليست عمرا انما هي اختصار العمر في عمل عظيم، وان البطولة الحق ليست بمقدار ما يكسب الإنسان المؤمن من جولات بل ان يأتي في النهاية مالكا انفاسه، لم تنقطع.
وتابع شربل مزهر: اجل يا حضرة النقيب كانت تلك لوعتي وكان ذلك اعجابي: ان اكون عرضت حياة رجل بهذه المنزلة للقتل وانا انسان عادي بين البشر بينما هو قادر ان يعطي وان يحقق مواقف تتسع الى مدى افادة الوطن والأمة.. وكنت دائماً اعتقد ان الباذلين والذين يركبون المجازفات ليسوا المترفين، أهل الحكم والمال.. ومرة لم اعتقد ان حاكما، خصوصا اذا كان هو في مطلع عمره، يعرض سلامته لانقاذ بشر عاديين مملوءة الارض بامثالهم، فربتٌّ كتفه وطيبت خاطره وقلت له: انك تنطلق من خطأ فالكرام ليسوا مرتبات بل معادن وهم المسؤولون والنبلاء، في قسم كبير منهم اهل موقف ومبرة وفداء، وهم يرون اجرهم وثوابهم على الارض وفي السماء.. ومن وقعت عليه يا شربل واحد من هؤلاء في الطليعة.. ينام ليله مطمئن البال هانئا الى ما قام به من محامد، لا يعنيه أرضي عمله او أغضب بل يعينه ان يصيب راحة ضميره ثم غمسة من معين الحق وينبوع القلب .
وسألت شربل: لماذا اعتصمت بالصمت حتى اليوم؟ فقال: لانني لمست عند هذا الامير كل معاني التواضع والبعد عن الاضواء ولأنه يعتبر ان ما يفعله هو لهناءة نفسه، ثم انه اداء مؤمن بين نبضه وبينه، فهو المثيب وهو الذي يمنح المكافأة الروحية والوسام، وتابع شربل: مهما تكلمت فلن احيط ببعض نبل تصرفه لان ذلك عمل موسوعي، ثم جهد جماعة.
إلا ان ما يعزيني ويسعدني ان في ايامنا، وخصوصاً في فريق المسؤولين الشباب، فئة من هذه المجموعة اللماعة، واضاف: أيها النقيب لست جديد المعرفة بالسعودية، وقد عرفت منها وجوها مشرقة ومبرات لا توصف، إلا ان هذا الوجه الساطع الالمعية ما اكتملت صورته في رأسي مرة بهذا الشكل.
واضاف: إن رجالا من هذا الوزن هم اهل لاحتمال المشقة والمعاناة وركوب المخاطر والمجازفات بلا تبرم ولا تذمر ولا شكوى.. انهم من مجموعة مختارة كرمها الله بالصبر العنيد والنفس الطويل.. فصارت ترى في كل ألم جديد وجها لأمل جديد.
***
وبدأ شربل القائد السابق لمنتخب لبنان للكرة الطائرة، ورداً على اسئلتنا وطلبنا بسرد الدقائق والساعات التي لن تغيب عن باله يوما على رغم شكره الدائم لله الذي اعطاه وزوجته الحياة مجددا ليعيد بناء عائلة متسلحة بالايمان والرجاء والمحبة.
في تلك الليلة المشؤومة من 8 تشرين الثاني (نوفمبر) وقرابة الساعة 11:15 مساء عدت الى منزلي في مجمع المحيا السكني بعد شرائي دواء لطفلي اللذين كانا مريضين، فايقظتهما وتناولا الدواء واخلدا الى النوم مجدداً.
وفي هذا اليوم عادت زوجتي ماغي الحامل بشهرها الرابع من المستشفى الذي كانت دخلت قبل أيام من الحادثة المفجعة بسبب ارتفاع في الحرارة.. وكان يمكنها ان ترتاح في المستشفى لايام اضافية لكنها فضلت العودة الى المنزل بناء على طلب ورغبة جاد وريا في منتصف ليل السبت - الأحد وفيما كان الطفلان يخلدان الى النوم وانا اشاهد التلفزيون وزوجتي تقرأ، سمعنا دوي انفجار واطلاق رصاص على مدى دقيقة من الزمن فسارعت الى غرفة جاد وحملته ونقلته الى غرفة ريا معتقدا انها المكان الآمن لحمايتهما من هجمات ومطاردة بالسلاح الخفيف مستبعدا تفجير المجمع. في هذا الوقت دخلت زوجتي الى الغرفة التي ينام فيها جاد وريا وانا كنت في غرفتي ارتدي ثيابي استعداداً ربما رمحاولة النجاة مع عائلتي. وعندئذ دوى الانفجار ولكنني لم اسمع صوته على رغم قوته، واستيقظت على صراخ زوجتي التي تناديني وتنادي جاد وريا، كنت مطمورا بين الحطام ورأيت زوجتي في حديقة المنزل وانا داخل البيت الذي أصبح دماراً، نصف جسدي مطمور بين الركام، وبطني مفتوح والامعاء خارجة منه وزوجتي يعلو صراخها والرصاص مازال ينهمر بغزارة على المجمع وسكانه لمدة عشرين دقيقة.وفي هذه الأثناء كنت أغيب عن الوعي ثم استعيده. وقلت لزوجتي: كفي عن الصراخ لانهم سيدخولن علينا ويقتلوننا.
وهنا تابع شربل حديثه وبحسرة قال: شاهدت جاري وزوجته وابنه خارجين من منزلهم وهم مصابون بعض الشيء.. نادت زوجتي جارنا ليساعدنا على الخروج من بين الركام والنار.. وقالت له: شربل ما زال حيا ساعده.
هنا رأيته يقترب مني، ثم اعتراه الخوف ولم يكمل طريقه نحوي وزوجته تناديه لأن الرصاص كان ما يزال منهمراً على المجمع، وهنا صرخت زوجتي وقالت له: كيف تذهب دون مساعدتنا لانقاذنا؟ النار تلتهم كل شيء وقد التهمت في حينه عائلة مصري داخل منزلها وهي تمتد نحونا.
وختم: جاري أنقذ نفسه وزوجته وطفله وخادمته، وأحمد الله على ذلك واطلب له السماح من الخالق على تصرفه.
ولأن الله لا يترك أحداً، سمعت زوجتي تصرخ قائلة: أنقذه.. ما زال حيا.. أنا أسمع كل ما يحصل حولي من دون أن تمكن من الحراك للخروج من الركام وكنت انزف والدماء تسيل من كل جسدي.
وهنا سمعت أحدا يقول: انه ميت وزوجتي ترد قائلة: بل انه ما زال حيا حاول انقاذه وهنا تدخل شخص آخر واتجه نحوي قائلا: ساعدني فلا قدرة لي ان اسحبك من تحت الركام وحدي.
ساعدني لأنقذك فأمسك بيدي ومددني الى لوح وسحبني نحو الطريق حيث تم نقلي الى المستشفى وعاد لمتابعة اطفاء النيران، وسمعته يقول: هناك أنين تحت الركام، لنفعل شيئا، وكانت ذاك صوت مربية الاطفال التي صعب نقلها على رغم محاولات عنيدة دؤوب.
ولقد تم نقلي الى مستشفى الملك خالد الجامعي وسمعت الممرضة تقول للأطباء، وضعه خطر جداً فيجب ادخاله فوراً غرفة العمليات، وما زلت أذكر ان امعائي كانت خارج بطني وكنت بحاجة الى 16 وحدة دم أي 8 ليترات وقد أشرف على اجراء عمليتي خمسة اطباء (وهنا كشف لنا شربل عن جسده الذي تعرض للتشويه من جراء الانفجار والقطب في جسمه 1600) وبعد حوالي 12 سعة في غرفة العمليات استيقظت على صوت أحد الاطباء المصريين يقول: (مبروك لقد كتب لك عمر جديد).
وهنا سألنا شربل: هل عرفت اسم الشخص المقدام والشجاع الذي أنقذك من تحت الانقاض؟ دمعت عيناه وقال متأثرا: إنه سمو الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز وكنت قد سمعت بعد أيام من الحادث الاجرامي أنباء تفيد ان الامير عبدالعزيز بن فهد دخل مجمع المحيا بعد الانفجار وعمل على انقاذ المصابين واطفاء النيران كل ما أعرف ان منزل الامير عبدالعزيز قريب من مجمع المحيا السكني وكنت حريصا ومصمما على معرفة اسم الشخص الذي سأكون مدينا له كل أيام حياتي.
وأضاف: بعد أيام من الانفجار عدت الى لبنان لمتابعة العلاج.. وعندما تعافيت نسبيا قررت العودة الى المملكة العربية السعودية للتعرف الى الشخص الذي أنقذ حياتي بفضل الله.
فطلبت مقابلة سمو الأمير عبدالعزيز لمعرفة حقيقة ما حدث في تلك الليلة المشؤومة وقد علمت من اصدقاء ان سموه كان يرغب في لقائي دون ان أعرف السبب.
وهنا سألنا شربل: هل تأكد ان الذي انتشلك من بين الركام هو سمو الأمير عبدالعزيز بن فهد؟ فرد قائلاً: تواترت أنباء عن ان سمو الأمير عبدالعزيز كان أول الواصلين الى المجمع بعد تفجيره ولهذا صممت ان التقيه لمعرفة هل هو الذي أنقذني؟.
ولقد تشرفت بلقائه، وقال لي: أحمد الله على ما أنت عليه اليوم لانك لم تر كيف كان جسدك لحظة نقلك الى المستشفى.
وتحادثنا عن تلك الليلة وهنا بدأ سموه بالكلام عن تفاصيل لن أنساها ما حييت وعندها تأكد لي ان هذا الشاب الشجاع المقدام الذي أنقذ حياتي هو سمو الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز الذي روى لي كل شيء بالتفاصيل الدقيقةوربط صورا كانت متقطعة في ذهني بعضها ببعض كما حدثني عن أنين صادر من تحت الركام وعن النيران التي كانت تقترب منا.
(ساعدني لأنقذك) عبارة رددها سموه عدة مرات وهي العبارة التي سمعتها وانا تحت الركام أنزف.
كذلك أخبرني أين كان المجرمون الذين اطلقوا النار على المجمع وقال لي سعيت جاهدأً لردعهم، وبدا متحسراً على الضحايا وعلى انه جهد لصدهم ولم يفلح كليا.
وماذا بعد؟ قال شربل: أشكر الله على انقاذ حياتي وحياة زوجتي والجنين الذي تحمله على يد رجل نبيل وخلوق وشجاع، وجاد وريا الآن هما في مكان أفضل من المكان الذي نحن وكل البشر فيه، الله اختار ان يختارهما الى جواره، فهو تدخل وأخذهما الى مكان هو حتما أفضل من هنا، والله أعطاني وزوجتي القوة لمتابعة حياتنا وتأسيس عائلة من جديد، عائلة مؤمنة بربها وبالصلاح والخير والسلام والمحبة، والى سمو الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز فإن اللسان يعجز عن الكلام الذي علي أن أقوله له عرفانا ووفاء وهو الانسان الذي أنقذني مُعرضا حياته ان الله يكافئه على شجاعته فنحن لا نستطيع ان نرد له الدين إلا بالدعاء له ولعائلته ولخادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبدالعزيز بدوام الصحة والعافية.
أنا رفضت مراراً التحدث عما حصل لي ولعائلتي من جراء الانفجار ولكن هذه المكرمة لا يجوز طمسها بل يتحتم تعميمها لتظل قدوة وامثولة وانموذجا لفاعلي الخير يُحتذى، وردا على سؤالنا هل انه سيعود للعمل في المملكة العربية السعودية؟ قال شربل المتأثر بشجاعة ومروءة الأمير عبدالعزيز: أولويتي هي ان تلد زوجتي وهي في شهرها السابع وأتمنى أن يتم كل شيء على خير بإذن الله والجنين اليوم هو بألف خير ولله الحمد وسأتابع علاجي، والعودة الى السعودية محتومة فالمملكة بلدي الثاني، ولي في السعودية أهل وأصدقاء سعوديون.
وأنا أحطت بعناية أخوية من كل المسؤولين والمواطنين الذي تواجدوا بكثافة الى جانبي... وختم شربل حديثه ل(الحوادث) بشكر كل الذين ساعدوه في المصيبة، ولم نعدد الأسماء كيلا ينسى أحد، وقال: الأمير عبدالعزيز بن فهد أمير كبير وأنا مدين له مدى العمر بحياتي.
|