الفتى دحيِّم كان رمزاً للريف الذي يعيش في محيطه بطيبته، وحسن معشره، ونقاء سريرته، وصفاء ذهنه، وسخاء عطائه كعطاء جداول ريفه المتدفقة, وهذه السماحة اقترنت بطهارة الشاب الريفي الذي لم تلوّث مشاعره نزعات المدنية، والتغيرات الحضرية المبالغ بها؛ يتصرف أحياناً بطيبة عفوية سلسة أوقعته مراراً في حرج أو موقف لم يكن يقصده ولا يرتضيه, إنما هي سجية الفلاح النزيه الذي يحاكي لطفه ودماثته خصب أرضه.
والأستاذ (مدحت) القادم من بعيد لهذا الوسط الريفي مأخوذ بنفسه معجب بتفوقه اللغوي وشهادته الجامعية العليا التي جعلته يقيس مسافة الوعي والإدراك بينه وبين الفتيان بهذه المدرسة الريفية بمقاييس تهكمية أحياناً وكوميدية أحياناً أخرى, ومثله الأعلى للقياس هو الحيوان البري الظريف (الجربوع). والأستاذ مدحت وجد الفرصة لتقبل هذا المسمى بابتسامات الطلاب الصغار؛ فأمعن بترديد ذكر الجربوع لدرجة أن دحيم ظن بطيبته أن الأستاذ مدحت معجب بهذا الحيوان الصغير، ويتمنى الحصول على واحد أو اثنين منه, اجتهد دحيم ذات صباح خميسي ولم يلبث أن عاد بثلاثة وليس واحداً من أنشط الجرابيع وأظرفها نطاً وركضاً، وذلك من أقرب محيط صحراوي من قريته, وصباح السبت وقبل الرمية الأولى من لسان مدحت لأحد الطلاب بأنه جربوع كسول, ناوله دحيم كرتونا صغيراً، وبهت الأستاذ حينما رأى محتواه فارتجّ ولجّ ومجّ وثار ونار إلى المدير شاكياً، وتم احتواء الموقف الكوميدي الطبيعي, وأقسم الأستاذ مدحت بعدها على احترام كل جربوع.
|