{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك رسالة السماء تجمع الخلق في رحابة الانتماء الديني أولاً، ثم الجمع بين شقيّ الحياة: (الاقتصاد والكيان الاجتماعي)، وفي كليهما قوّة الحياة الدنيا وزينتها وتألقها، ولكن هل نُلقي بزينة الحياة الدنيا إلى الشوارع؟ هل نلقي بأطفالنا لتتلقفهم أيدٍ ضالة فتلقي بهم في مهاوي الرذيلة؟ أطفالنا بضعفهم البنيوي والتربوي، هل نتركهم لاعتداءات نفسية وجسدية تسهم فيها المخدرات واللصوصية؟ فيتركون كياناً غير متزن وقابلا للانحراف والجريمة.!
نحن اليوم نعيش في عالم هيمنت عليه قوى الشرّ عبر وسائل الاتصال، وتمكنت من خلق اعاقات في بُناه تسمح للإرهاب بالنمو في أحشائه، في هذا العالم 130 مليون طفل ليست لهم أسر ينعمون بدفء عواطفها، بل يعيشون في ظروف خطيرة واستغلال نهم يبطشان بـ100 مليون منهم، و13 مليونا تتخطفهم المنايا سنويا بسبب سوء التغذية، والأدهى والأمرّ أن مليون طفل ارغموا على العمل بالدعارة، هذه الأرقام المرعبة نشرتها منظمة (اليونيسيف) مؤكدة ان الذكور يمثلون 75% من هؤلاء الأطفال المشردين في الشوارع، وان معظمهم تتراوح أعمارهم ما بين 10 إلى 15 عاماً.
والسؤال المؤرق لكل عاقل: هل يبيت في شوارع بلاد العرب، وتحت شمسهم أطفال بلا أسر (أطفال الشوارع)؟ وللإجابة على هذا السؤال، لابد ان نأخذ بالحسبان ان الأرقام تختبئ، والحقائق تضيع في كثير من البلدان لعدم وجود دراسات احصائية علمية بالأرقام والحقائق كي تحدد المشكلات وتضع حلولاً لها، وحتى نعطي مثالاً واضحاً، دعونا نتعامل مع الأرقام المعلنة في مصر التي أعلنت رسميا عن وجود 100 ألف طفل مشرد، لكن بعض الدراسات تقول: إن الرقم 200 ألف طفل، ثم تأتي جمعية (كارتياس) المصرية وهي مركز ديموغرافي تابع لهيئة كارتياس العالمية، والمسجلة بوزارة الشؤون الاجتماعية المصرية رسميا تؤكد هذه المؤسسة ان عدد الأطفال المشردين 1.5 إلى 2 مليون طفل مشرد في المدن الكبرى المصرية.
أما المغرب، فتعلن تقاريرها الرسمية أن تعداد أطفال الشوارع 234 ألف طفل، وفي الأردن تنفي التقارير الرسمية هذه الظاهرة، وتؤكد أن تعدادهم لا يتعدى ألف طفل، وفي المملكة العربية السعودية تشير التقارير الدولية والرسمية إلى ان عددهم يمثل أقل نسبة في دول العالم كله، ومع ذلك ومن باب الوقاية قد تكون أهم من العلاج ، نظم مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في الرياض ندوات ضمت مختصين من الولايات المتحدة وكندا والسعودية، وشددت تلك الندوات على ضرورة الاسراع في إنشاء لجنة وطنية لحماية الأطفال.
نعود إلى حيث بدأنا {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لنشير إلى الربط العلمي بين الاقتصاد وبين البنين كزينة للحياة الدنيا، وكمدخل لبناء مجتمع سليم نبيل يكون فيه المال والبنون زينة، وليس مصدراً للانحراف والادمان والجريمة.
الطفولة بحاجة إلى متابعة طبية ونفسية واجتماعية واقتصادية، والرعاية الطبية لا تتحقق دون إنفاق المال في المشاريع الإنسانية الكبيرة التي تؤمن الصحة الجسدية للإنسان معاقا كان أو سليماً، ومن هنا فإن حملة الرعاية الاجتماعية والتثقيف الصحي والتأهيلي التي يرعاها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز تختصر الطرق جميعها لتتحقق تلك المتابعة المطلوبة في أسمى صورها، ونحن لا نذهب بعيدا في ذلك، ولا نبالغ لأن حملة الأمير سلطان لا تتوقف عند المعاقين وحدهم! فقد أوضح الأستاذ الدكتور محمد بن حمود الطريقي رئيس مجلس العالم الإسلامي للاعاقة والتأهيل والمشرف العام على حملة الأمير سلطان بن عبد العزيز للرعاية الاجتماعية والتثقيف الصحي والتأهيل حقيقة وأهداف هذه الحملة بقوله في اجتماع الدوحة لخبراء الإعاقة: (إن الرغبة تحدوني أن أطرح أمامكم ما يتعلق بجدوى هذه اللقاءات التي نتحدث فيها عن النواحي النظرية دون التعرض لقضايا بلادنا من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتي هي بالأصل تعتبر أساسا لتطبيق أية قوانين تطرح لعلاج قضايا الإنسان سواء المعوق أو غير المعوق في بلادنا العربية).
إذن فنحن أمام مسألة كبيرة في العالم، وكبيرة في البلاد العربية، ومن المتوقع في ظل طاحونة الحياة ومستجدات العصر ان تكبر مستقبلا وتستفحل على مر الأيام مع تعاظم الهجرة من الريف إلى المدينة، ومع انتشار الفقر الذي يؤدي إلى تفكيك الأسر، وزيادة حالات الطلاق أو الهجر، وانتشار البطالة بين الآباء، وسوء معاملة هؤلاء لأبنائهم مما يؤدي إلى ازدياد أعداد الأطفال الذين يتعرضون للعنف والاعتداء الجسدي والإدمان، ومن هذه البؤرة النتنة تتولد مافيات، ويبرز مجرمون، ويتوطد إرهاب، وتتدهور مجتمعات. وبالتالي كان لابد من يد رؤوم، وحكمة فطنة، وحملة مدروسة ترفع شعار {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وتعمل على إنقاذ بلادنا العربية من تفاقم مسألة الأطفال المحرومين من أسرهم، فلم يكن غير سلطان الخير لها، ولم يكن إلا برنامجه الشامل لتحقيق الرعاية الاجتماعية الحقيقية لهذه الفئة المحرومة من حنان الأسرة.
ونحن إذ نضع أمام رجالات الخير هذه المسألة، لا نريد ان نكرر ارقاما أو نقارن بين حالات، وإنما نسعى إلى أن تكون الإشارة كافية لتحظى هذه المسألة باهتمام العاملين وواضعي الأنظمة، فالحل لا تملكه مؤسسات اجتماعية أو خيرية صغيرة، وربما تعجز عنه دول لا يستطيع اقتصادها تحمل اعباء حملة اجتماعية صحية تأهيلية لانقاذ آلاف الأطفال، وبالتالي انقاذ مجتمعات.
إن من يطلق حملة للرعاية الاجتماعية والتثقيف الصحي والتأهيل للمعاقين، جدير بأن يطلق حملة أشمل وأوسع تنهي ظاهرة الأطفال بلا أسر، وتغير مستوى حياتهم ليصبحوا أطفال العلم والحضارة المؤهلين لبناء أوطانهم، ورفع رايات بلادهم خفاقة في كل محفل، وإذا أعقب تلك الحملة مؤتمر عربي يدرس تلك الظاهرة، ويحدد مدى تفاقمها، ويسنّ القوانين اللازمة لمعالجتها، ويعتمد الأموال لبناء المؤسسات والدور التي سترعى الطفولة والأطفال، وتغلق بوابة جحيم الانحراف التي تهدد هذه الفئة، التي ان فتحت اصاب لظاها الجميع.. فمن ينزع هذه الألغام المبثوثة في معظم المجتمعات العربية؟
|