لم يعد الزمن مواتياً، بحيث يصدع كل امرىء بما يرى، ولم يكن الدين انتقاء، بحيث يؤمن الكسالى ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، ولمّا يكن أحدنا ك (ذي القرنين) الذي آتاه الله من كل شيء سبباً.. وأمام تعذر الصدع وفساد الإيمان الانتقائي، يتميز الصِّدِّيقون ممن يعبدون الله على حرف. ومع تداخل القطعيات بالاحتمالات فقد مضت سنة الله في خلقه على التفاوت في العقول والأفكار والاهتمامات والرغبات والقدرات: الحسية والمعنوية، ولما علم الله أن فينا ضعفاً خفف عنا. ومع كل ما سلف تبلى الأمة بالموغلين والمنبتّين والغلاة والبَرِمين من الاختلاف. وحين نُروض أنفسنا على مشروعية التفاوت والاختلاف في الأمور الاحتمالية، يكون حريَّاً بنا أن نفرق بين الاختلاف المثري والتنازع المصمي، وأن نتوخى جدال من يشاركنا المصير بالتي هي أحسن. والمتابع لما يدور في القنوات الفضائية، وما يقال في المؤتمرات والندوات والمجالس الخاصة يصاب بالإحباط. لا لأن الناس يختلفون، ولكن لأنهم في المواجهات يحيلون إلى سوء النوايا، وفساد المقاصد، وتزكية الذوات، وتخوين الآخرين، والإمعان في الشك والارتياب. وحين تفضي المناكفات والملاسنات إلى التجريح والاتهام تهمل القضايا، وتصبح المشاهد كحلبات المصارعة، لا ترى فيها إلا متلاكمين، يبحث كل واحد منهم عن الضربة القاضية.
ومتى أدى التناوش الكلامي إلى نبش الضغائن، يصبح الصمت من ذهب والحياد من فضة. والصمت والحياد مصائر اضطرار لا موارد اختيار، وسمات انهزام لا علامات انتصار، وليسا من الإسلام في شيء، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن الخائض في جدل لا تحكمه ضوابط يعد سفاهة وإسفافاً، وانزلاقاً في مهاوي الرذيلة. ومؤدى الإسلام: الاستسلام والانقياد والخلوص وعدم الخيرة من قضاء الله ورسوله. وحين يندر الإجماع لا يتعذر الاجتماع، إذ ليس شرطاً تلازم عدم الإجماع في الحكم مع عدم الاجتماع في الكلمة. ولنا في أئمة المذاهب قدوة، فهل نقم (أحمد) على (أبي حنيفة)؟ وهل سخر (الشافعي) من (مالك)؟. والخائضون في الشأن الإسلامي أو الوطني أو الفكري أو الاجتماعي أو الأدبي بغير علم ولا روية ولا تجربة يمسُّون مثمنات حسية ومعنوية تطال الشاهد والغائب. والشأن العام حق جماعي، الناس فيه شركاء، فالسكوت والقول إشكاليتان، متى لم يسعد النطق، ولم يجمل السكوت.
وإذا كانت طائفة من العلماء أو المتعالمين والفلاسفة أو المتفلسفين تتقحم سوح الجدل بعبارات نابية، واتهامات سافرة، ومعلومات ضحلة، وتأويلات بعيدة، فإن طوائف أخرى تتعمد التدابر والتباغض، دونما سبب يستدعي ذلك.
والاختلاف في الرأي المشروع لا يسوّغ القطيعة، مثلما أنه لا يسوّغ الوقيعة فالإسلام لا يتحقق إلا بالأخوة والمودة والرحمة بين المسلمين، ولهذا وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجسد الواحد والبنيان الذي يشد بعضه بعضاً. والتهاجر مناف للاعتصام بحبل الله، والتدابر مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم . وهجر العصاة والمبتدعين الذي يعول عليه البعض ليس على إطلاقه، فإذا ترتب على الهجر مفسدة أكبر من مفسدة المخالطة، أصبحت المخالطة مطلوبة، ذلك أن الأصوليين يقيمون أحكام الإسلام على التغليب، ويحكمون مواجهة المخالف بالأفضل، بحيث تكون باليد أو باللسان أو بالقلب، وممارسة الإنكار دون مراعاة مقتضى الحال مفسدة للحياة. والاختلاف في الآراء لا يحال على الابتداع، ولا على المجاهرة بالمعاصي، وإذا ندر إجماع الأمة، وجب عليها ملاطفة المخالف ولو في الفروع على الأقل.
وفي الوقت نفسه فإن على كلّ ذي رأي مخالف مراعاة مشاعر العامة، فالمجاهرة مدعاة للاستفزاز والاشمئزاز, وإذا اختلف الخاصة أو العامة مع غيرهم، وجب عليهم الإبقاء على جسور التواصل. فالمسلم مطالب بالدعوة والدفع دونما صلف أو إكراه، ونسف جسور التواصل يحول دون الإسماع وإبلاغ المأمن المأمور به في حق المشرك. وما كان بين الأطراف من عداوة فإنه يزول بالإجارة والأمان والدفع بالتي هي أحسن، وكل ذلك مطلب إسلامي، والمصير إلى التهاجر والتدابر من معمقات الفشل المنهي عنه.
والعداوة لا تكون إلا حين يكون سوء الظن بالمسلمين: خاصتهم وعامتهم وولاة أمرهم، وإلا حين يكون سوء التقدير والتدبير. ومواجهة المخالف بالحق عالماً كان أو سلطاناً واجبة، ولكنها لا تكون إلا وفق ضوابط وشروط وأساليب لا تعمق الخلاف. ولهذا حث الإسلام على السمع والطاعة، تفادياً لما هو أسوأ، فقد يكون هناك جور وأثرة أو تقصير أو إبطاء. ومواجهة ذلك كله مشروعة، ولكنها مشروطة. ولقد أخبر الصادق المصدوق بالمتغيرات، وبما ستؤول إليه حال الأمة (ومن يعش منكم فسيرى أختلافاً كثيراً). وأمام حتمية الاختلاف رسم طريق الخلاص. وحين لا يُحسن العامة أو الخاصة معالجة ذلك، يتحول الجور إلى عنف، والأثرة إلى استبداد، والإبطاء إلى تعطيل. وكم فوتت المعارضة الفجة فرصاً ثمينة. وفي كتاب (الإمارة) ل(الخلال) آيات صريحة وأحاديث فصيحة وأقوال محكمة لعلماء الأمة الذين يجمعون بين العلم والتجربة، ويمتازون بحسن التصرف وبعد النظر، ويغلّبون درء المفاسد على جلب المصالح، وكل هذه الآيات والأحاديث والأقوال تحث على الاجتماع والاعتصام والسمع والطاعة والمناصحة والصدق والأمانة والوفاء. وليس معنى هذا أن يُسلِّم الناس للظلم والاستبداد، ولكن عليهم أن يعالجوا الأمور وفق متطلبات المرحلة، وإذا كانت مرجعية الأمة (الكتاب والسنة) فإن الاختلاف حول المفاهيم والدلالات لا يقتضي الطعن في أمانات الناس ونواياهم. ومن اختلف مع غيره حول مفهوم آية أو حديث، لزمه سماع الرأي الآخر، واستقصاء حيثياته ومعرفة الأصول والقواعد والآليات والمناهج المعول عليها، وتفادي الوقوع في تأليه الهوى والإعجاب بالرأي، والمتابع لمعطيات الفكر السياسي الإسلامي يجده جماع الخير كله، فلا هو حفي بعنف الثوريين، ولا بمداهنة المتزلفين.
وكم يكون خيار التعاذر والتعايش أفضل من التلاوم والتدابر، وبخاصة في ظروف عصيبة كالمعاش على كل الصعد. ومما يخاف منه العقلاء تمادي الأطراف المتنازعة فيما تذهب إليه، دون السماع والإسماع في أجواء من الأمن، فالمخالف يصر على الحنث، والمناصح لا يتخول بالنصيحة، ولا يتوخى الوسطية، ومن ثم يصطدم إصرار الحانث بفظاظة الناصح وغلظته، ثم تكون الفتنة. وإذا كان الاختلاف سمة المجتمعين وفق أي رابط عقدي أو مدني أو إقليمي أو لغوي أو عرقي أو أسري فإن الأوجب اتخاذ الآلية الحضارية لتفادي التمادي في الغي أو الصدام في المواجهة. وإذا كانت المحاكم المدنية - القانونية أو الشرعية، تتولى فض المنازعات وفك الاشتباكات بين الدول والأفراد والجماعات عند اختلافهم حول الحقوق فإن قادة الفكر السياسي أحق بوضع الآليات المناسبة لمواجهة الاختلاف في وجهات النظر حول القضايا المشتركة، فالحق الجماعي أولى من الحقوق الفردية، وحين لا تكون آلية ولا منهج تدخل الأمة في الفوضوية، مستنزفة كل طاقاتها في سبيل الهوى والشيطان. وما من أمة إلا ولها دستور وقانون، يحكم الأول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويحتكم الخصوم إلى الثاني لفض المنازعات. وأي تجمع يكون بعض أفراده فوق القانون يقع في الفتنة من حيث لا يشعر. والتجمع الحضاري لا يحكمه الرجال، وإنما تحكمه الأنظمة والمؤسسات، وما الرجال إلا منفذون ورعاة، ومع هذه المسلمات البدهية لا مناص من اختلاف وجهات النظر حول المفاهيم والإجراءات.
والاختلاف يكون بين العلماء حول الأحكام والمفاهيم والمقتضيات، ويكون بين الساسة حول المواقف والمصالح والقضايا، ويكون بين العامة والسلطة حول الأوضاع والإجراءات والحقوق والواجبات. وكل مجتمع بشري تتعدد فيه الفئات والرغبات والمسلمات يقوم بين فئاته اختلاف، فإذا بادره عقلاء الأمة وأهل الحل والعقد وجهوه الوجهة السليمة، وإن استحكمت الفوضى، وغلب السفهاء، فسدت الحياة واستشرت الفتن. وكل اختلاف لا يبادره حكماء القوم ينتقل من التلاسن إلى التطاحن، ومن إراقة الأحبار إلى سفك الدماء، ومن البحث عن الحق إلى البحث عن الانتصار:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو
وما هو عنها بالحديث المرجّم |
وكل حرب دامية لا تكون إلا ناتج خلاف لا يبادره حكماء القوم، والنار من مستصغر الشرر، وكم قال الحكماء:
أرى خلل الرماد وميض نار
وأخشى أن يكون لها ضرام |
وإذا كانت الأمة - أي أمة - تتوفر على أمن وارف، واستقامة راشدة، ورخاء عام، ثم لم تكن شاكرة لأنعم الله، مراعية لحقه، انقلب الأمن خوفاً، والاستقامة انحرافاً والرخاء فقراً. ومتى أصيبت الأمة بأمر جلل وجب عليها التفتيش في علاقتها مع بارئها أولاً. وتحصين حدود الأرض لا يكون إلا بعد تحصين حدود الله، فإذا كانت على مراد الله، وجب عليها أن تنظر في علاقاتها مع نفسها ومع غيرها.
لقد تعرضت الأمة العربية في تاريخها الحديث لمتغيرات سياسية وفكرية، كشفت عن رداءة في التصورات وأخطاء في الإجراءات. وليس أضر على الأمة من سيادة الخطابات الطارئة: خطابات (الثوريين) في مجال السياسة، وخطابات (الحداثويين) في مجال الفكر والأدب، وخطابات (المداهنين) و(المتعلمنين) و(الراديكاليين) و(الليبراليين) في مختلف المجالات، وخطابات (الإسلامويين) المتطرفين. والخطابات المتلاطمة في مشاهد الأمة مدانة بالوثائق والمصائر. فهل حال الأمة تسر، بحيث نتخذ من هذه الخطابات قدوة، لاستكمال المسيرة؟ مع أنها تعد الخطابات السائدة ؟
إن مواجهة السوائد والمسلمات الخاطئة بالخطابات المتشنجة المخوّنة المحرضة لا تختلف عن خطابات التزكية والتصنيم والتكريس والتبرير، وليست السكونية الاستسلامية بأحسن حالاً من المغامرة غير المحسوبة، وما أضر بالأمة إلا المغامرون الذين يصرون على القفز، مع إمكان المعالجة المرحلية، وإلا السكونيون الذين يبطئون، ويفوتون الفرص.
ف (الثوريون) اختلقوا الاختلاف مع السلطات الشرعية، وحين أسقطوها تحولوا إلى وحوش ضارية، وتحولت لغة الحوار عندهم إلى لغة السلاح، فكان أن أثخنوا في أوطانهم، وحولوها إلى زنزانات خانقة ومقابر جماعية، و(الحداثويون) اختلفوا مع ثوابت الحضارة، وحين همشوها، تحولوا إلى هدامين ودعاة سوء في الأفكار والأخلاق، (والتنويريون) اختلفوا مع الماضويين، وحين تهيأت لهم الأسباب طافوا بقومهم على سقط الحضارات، و(الإسلامويون) الذين اتخذوا الإسلام غطاء لأطماعهم، جعلوا العنف سبيلاً لتحقيق مآربهم، فكان أن أتاحوا الفرصة لأعداء الإسلام لجعله مصدراً للإرهاب. وحين ننقم على نوابت السوء، لا نزكي مناقضها، ولا ندعو إلى رفض الإصلاح والتجديد، وإنما نود أن يكون المصلح والمجدد عوناً للأمة على تجاوز المنعطفات الخطيرة، بحيث يتخول المصلحون والمجددون الرأفة والرحمة والحلم والأناة والرد إلى مصادر الحضارة ومنجزات علماء الأمة المشهود لهم بالعلم والصلاح والصدق والأمانة.
ومن تصور أن ما نقول من باب التهويل أو التخذيل فلينظر إلى ظواهر الحياة ومصائر الأحوال، ثم ليكن حكماً عدلاً، يزن الأمور، ويربط الشاهد بالغائب، وإذ نقطع بحتمية الاختلاف وضرورة الإصلاح، ولا نجد أي مبرر لإبقاء الأمور على ما هي عليه فإننا نود أن ننظر في الآليات والمناهج والإمكانيات والأرضيات والأوضاع وأحوال الأمم المؤثرة في مصائر العالم، وأن نسبق ذلك كله بالإعداد الحسي والتهيئة النفسية والأخلاقية، فالذين فتحوا عيونهم على أوضاع ونشِّئوا عليها، لا يمكن قسرهم وتحويلهم بين عشية وضحاها، فالسوائد والمسلمات أقوى من الطوارىء، ولنا في قصص الأنبياء أسوة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} فعقدة (الأبوية) ماضية في الأمم، ولا يقدر على تحولها إلا العقلاء الذين يقدمون بين يدي ممارساتهم ما يطمئن الذين اعتادوا على أوضاع يظنون أنها الأفضل. ومن عايش أوضاع من حوله، واكتوى بمصائرها، تمنى الإبقاء على المفضول خوفاً من ذهاب الفاضل والمفضول معاً.
|