من المعلوم أن أمريكا حينما قامت بشن حربها على العراق، لم يكن قرارها بشن الحرب قراراً مرتجلاً ولا آنياً، بل كان مدروساً ومخططاً له منذ زمن بعيد، وان أمريكا لم تدخل العراق وتخسر مليارات الدولارات من أجل عيون العراقيين!، ولم يكن ذلك من أجل ان تخرج من العراق في غضون أشهر ولا في أعوام، بل جاءت من أجل ان تبقى!.. وأمريكا حين شنت الحرب على العراق في ظل حجج واهية متجاوزة كل النداءات الدولية والاستنكار العالمي، وضاربة بعرض الحائط الشرعية الدولية، أقول رغم كل ذلك ورغم لا مشروعية الحرب وما أحدثته من دمار وقتل، ولكن ما آلت إليه تلك الحرب من نتيجة وفي مقدمتها اسقاط نظام الحكم الدكتاتوري، في وقت كان الناس متعطشين للحرية والخلاص من الكابوس الجاثم على النفوس منذ ثلاثة عقود وفي منتهى القسوة والتعسف والتنكيل، حتى وصل الناس إلى قناعة استحالة تغيير النظام أو اسقاطه من الداخل، ورغم ان هذا منطق مرفوض من الناحية المبدئية والأخلاقية فلا يجوز اتخاذ مثل هذه الحالة ذريعة للتعميم واقرار حق للدول الكبرى المستبدة في التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى تحت ذريعة اسقاط الأنظمة الدكتاتورية!، لكن حصل الذي حصل، ومن منطق الأمر الواقع، فإن العراقيين وجدوا في النتيجة المتحققة في ازاحة النظام الدموي الطاغي خطوة حميدة، وهذا بحد ذاته كان يمكن ان تستغله أمريكا خير استغلال، في تغيير نظرة العراقيين تجاه موضوع الاحتلال والحرب من منطلق تأكيد حقيقة ان ازاحة ذلك النظام لم تكن لتتم إلا بهذا الأسلوب، كان بإمكان أمريكا أن تكسب ود وعطف العراقيين المتطلعين للحرية وتجعلهم ممتنين لها لو انها اقدمت على بضع خطوات منطقية واستراتيجية كي تحول صورتها من (معتدٍ) إلى (محرر)!، وتتمثل تلك الإجراءات الافتراضية في الخطوات التالية:
1- فور دخول العاصمة كان يجب على سلطة الاحتلال ان تتصرف من منطق المسؤولية والحرص على الأمن العام العراقي في ان تصدر بيانا بمنع التجول كي تمنع الغوغاء من نهب وحرق الممتلكات العامة أو الإخلال بأمن البلاد.
2- كان عليها ان تحمي جميع مرافق الدولة العراقية والبنى التحتية مثلما حمت وزارة النفط لأن هذه الممتلكات ليست ملكا لصدام أو للنظام السابق بل هي ملك للشعب العراقي.
3- كان عليها دعوة كل من تحتاج إليهم البلاد في حفظ الأمن وتسيير الخدمات في الظروف الطارئة مثل الشرطة، والصحة والماء والكهرباء والنفط للالتحاق بواجباتهم المعتادة من أجل ان تستمر عجلة الخدمات الأساسية والأمن والنظام.
4- كان عليها ان تدعو قطاعات الجيش العراقي للالتحاق بمقراتها الدائمة، ولا تتسرع في إصدار القرار سيىء الصيت في حل وتسريح الجيش العراقي.
5- كان عليها ان تضبط الحدود وتدعو قوات حماية الحدود للاستمرار بواجباتها فضلا عن تعزيزها بالحماية الجوية من الطائرات المروحية الأمريكية لأن قوى عديدة استغلت انفلات الحدود ودخلت إلى العراق بالآلاف وارتكبت أفعالاً بل جرائم تخل بالأمن والنظام وأشاعت الفوضى في المدن العراقية واسهمت عناصر غريبة حاقدة على العراق في حرق وتدمير الوزارات والمنشآت العراقية، وهذا الكلام ملموس وموثق وليس مجرد تخمينات!.
6- كان عليها الاسراع في تشكيل مجلس وطني شامل يضم جميع الأطياف والتكتلات العراقية تنبثق عنه حكومة من التكنوقراط الوطنيين لإدارة شؤون البلاد.
7- الإسراع في إصلاح ما دمرته الحرب من تخريب للبنى التحتية وبخاصة الكهرباء والماء والنفط والاتصالات.
8- الحفاظ على الكوادر والملاكات الوطنية العراقية وعدم التفريط بها، لكن الذي حصل في ظل انفلات الأمن هو اغتيال أعداد كبيرة من هذه الكوادر مما اضطر آخرين للهرب خارج العراق التماسا للأمن، في الوقت الذي كان على سلطة الاحتلال دعوة العراقيين المهاجرين للعودة إلى الوطن والاسهام في بنائه.
9- كان عليها ان تدرك جيدا طبيعة المجتمع العراقي وخصائصه، وتقر بحقيقة ان الناس كانت مجبرة تحت مختلف الظروف والدواعي للانتماء أو التسجيل في حزب الدولة، وتدعو كل الناس إلى طي صفحة الماضي وتشجع على اجراء مصالحة وطنية شاملة بدلا من ان تكرس التفرقة والطائفية والعرقية او تشجع على الانتقام والثأر!
لقد أضاعت أمريكا فرصة ذهبية، ولا أظن ان دولة عظمى مثل الولايات المتحدة كانت غافلة أو جاهلة لتلك الأمور، بل أقول انني اطلعت على مجموعة وثائق وأوراق عمل قدمتها جمعية الحقوقيين العراقيين في بريطانيا والولايات المتحدة تمثل تصورا منطقيا قانونيا لحالة ما بعد اسقاط النظام والخطوات الواجب اتباعها من قبل سلطة الاحتلال كي تسهم في إعادة إعمار العراق وفي البدء والمقدمة منه اعمار الأمن والنظام العام، لكن قوات الاحتلال تغافلت (ولا أظن ذلك غير متعمد!!) عن مراعاة ما ورد في تلك التقارير والأبحاث التي قدمها أناس علميون ومهنيون مخلصون لوطنهم، فضيعت على نفسها وعلى العراق وعلى العالم فرصة ذهبية، فانقلب الأمر وبالاً عليها وعلى جنودها!.
* لواء شرطة عراقي
|