استمراراً لاستعراض كتاب (العرب، وجهة نظر يابانية) للمستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا، هنا الجزء الثالث والأخير. بعد كشف المؤلف لآليات القمع اليومية في المجتمع العربي، في فصل (كارثة القمع وبلوى عدم الشعور بالمسؤولية)، يتساءل المؤلف في أوضاع كهذه ماذا ننتظر من الكاتب؟ ويجيب: ننتظر أن يكون صاحب الموقف أو يكون في صف شعبه وصوتاً للحرية ضد القمع بجميع أشكاله. ولكن ما الذي حصل؟ خلال أربعين سنة من حياتي قابلت عدداً كبيراً من الكتاب العرب - يقول المؤلف- ومن هذه التجربة اكتشفت أن الكتاب النجوم يتكلمون كأنهم سلطة.. مثلا تجلس مع كاتب يتحدث عن الديموقراطية ثلاث ساعات ولا يعطي مجالا لأحد بالكلام.. عملياً هو يمارس الدكتاتورية أو سلطة النجم ومع ذلك يشكو من غياب الديموقراطية.ويسترسل المؤلف في ذلك: أذكر هنا مثالاً غريباً، المهرجانات الشعرية الكثيفة التي تقام في البلدان العربية. يتوافد الشعراء.. وينزلون في أفضل الفنادق ويأكلون أفخر الأطعمة..ثم يتقاضون مكافأة.. وتلك المهرجانات كلها تحت رعاية السلطة وتمويل منها.. إن عقولنا في اليابان عاجزة عن فهم معنى أن يمدح الشاعر أو الكاتب السلطة أو أحد أفراد السلطة. هذا ليس موجوداً عندنا على الإطلاق.. ربما نفهم أنه أعجب بأحدهم فمدحه ولكن أن يمدح قادة - من عدة أقطار - يختلفون في أساليب قياداتهم إلى حد التناقض فإنه يعني استعداده لمدح من يدفع له. ويتنقل المؤلف بين العديد من الشواهد والأمثلة بطريقة غير منتظمة وليست وفق منهجية معينة، ولكنها حوادث متفرقة متضمنة مواضيع متنوعة، مثلاً يتناول عقدة الشرف لدى العربي وجرح الكرامة، والازدواجية في سلوك العربي داخل بلده مقارنة بخارجه أو داخل منزله وخارجه، والاختلاف في النظرة إلى الدين بين العربي والياباني.
ويعقد المؤلف مقارنات في مسألة الثقة، ذاكراً أن تاريخ الثقة طويل في اليابان، ويضرب مثلا بأنه يترك طلابه بلا مراقب أثناء الامتحانات، ويبرر ذلك: أريد أن اجعل الطلاب يتصرفون بثقة، وإذا صادف أن غش أحدهم فإن زملاءه يعتبرونه خائنا للثقة. الثقة ضمانة وكمثال أقدر أن الصحافة في اليابان تشتغل على أساس الثقة وأهم مسألة عندنا أنها تقدم حقائق وإذا حدث احتمال للكذب.. فإن الصحافة تتعرض لحالة خطرة.. بالمقابل ينقل المؤلف حكايات تدل على غياب الثقة عن العلاقات الاجتماعية في البلدان العربية، ويروي في ذلك: شاهدت كثيراً من الآباء يستخدمون القوة مع أبنائهم لكي ينفذوا شيئا نموذجياً مرغوبا. مرة أهديت أبا عبد الله منظاراً عاديا، حرك الفضول أولاده لاستخدام الجهاز، وقرأت في عيونهم حب الاستطلاع، ولكن صديقي قال لأبنائه: لا تلمسوا المنظار. إذا واحد منكم مد يده عليه فسأقطعها. بعد هذا التهديد لم يقترب أحد منهم من الجهاز.
وينتقل المؤلف إلى الثقة في المجتمع عاقداً المقارنة بين المجتمعين العربي والياباني: الناشرون عندنا ليسوا تجاراً. إنهم يشتغلون في ميدان الثقافة. لقد سمعت من كتاب عرب أن الناشرين يستغلون الكتاب ويسرقون حقوقهم! من الصعب أن ندرك ذلك ونفهمه. والجميع يعرفون ظاهرة تصوير الكتب، ونشرها دون إذن من المؤلف أو دار النشر صاحبة الامتياز. هذا لا يحصل عندنا على الإطلاق.. وبعد ذلك يوضح المؤلف كيف أن العلاقات في البلدان العربية تقوم على الصلات الفردية أو الخدمة الخاصة أو الرشوة. فعندما تغيب الثقة يحل محلها المنفعة المتبادلة غير القانونية.
في فصل آخر يتناول المؤلف المسألة الفلسطينية مؤيداً عدالة قضيتها ومبرزا رموزها الثقافية كغسان كنفاني ومحمود درويش. ثم في فصل آخر يطرح ما تعلمه من ثقافة البدو باحثاً عن المعنى في أدب الصحراء العربية، ومحاولاً التخلص من الصور الجاهزة المسبقة عن ثقافة البداوة.. ويتناول الشخصية البدوية مستفيدا من أفكار الباحث الكبير جمال حمدان. وفي ذات السياق ينتقل المؤلف إلى فصل أسماه (عالم إبراهيم الكوني) الروائي الليبي المنتمي إلى الطوارق. ويرى المؤلف أن الكوني يقدم لنا وجها نادراً فريدا من الثقافة العربية وشخصيتها، ويقرر أنه على هذا المستوى من الخطاب الرفيع يستطيع العرب أن يحاوروا ثقافات العالم بامتياز عميق. ويستعرض المؤلف المفردات التي يقوم عليها عالم إبراهيم الكوني والأسطورة وعقلية الطوارق والفلسفة والأمثال في الصحراء.
ومشابه لتناوله عالم (الكوني) يطرح المؤلف شخصية عربية أخرى، وهو عبد اللطيف اللعبي وعلاقته مع الكتابة والقمع والحرية، ويتساءل مستغرباً: لماذا لم تتحول أفكار أولئك الكتاب إلى حركة جماعية؟ لماذا نقابل دائما حالات فردية عالمية في الوطن العربي ولا نقابل حركات شعبية على المستوى نفسه؟ اللعبي ككاتب عربي أو عالمي يمثل بالنسبة لنا نحن اليابانيين قيمة كبيرة لأنه ككاتب تحدى وانخرط في الفعل وقدم ثمناً باهظاً وهذا فريد جداً بالنسبة لنا.. ثم ينتقل المؤلف إلى شخصية أخرى كمدخل إلى معرفة المجتمع في مصر، وهو يوسف إدريس باعتبار أعماله الأدبية تقدم الواقع الملموس طازجاً حياً في قصص دافئة ممتعة.. حيث يأخذك إلى أعماق حياة الشعب المصري، ويساعدك على فهم شخصية مصر، كما يقول المؤلف.
بعد الملحق يختم المؤلف كتابه بإعادة التذكير بما يربطه بالوطن العربي من علاقات واهتمامات ثقافية وتجارب تربو على أربعين سنة. ويتساءل: ماذا يفكر العرب أن يفعلوا للمستقبل؟.. إنني أرى أن هناك مشكلة لا بد أن تحل.. هذه النقطة هي مركز كتابي هذا. وأرى أن مشاكل كثيرة تخرج من القمع. القمع مرض عضال ومشكلة أساسية في المجتمع العربي.
ونختم بالقول ان الكتاب والمنهج الذي اتبعه المؤلف لم يكن منهجاً أكاديميا، بل لم يكن منهجاً بحثياً بالمعنى المتعارف عليه يتبع تراتباً منطقياً للمواضيع وربط الأفكار، إنما كان عبارة عن أفكار وانطباعات مبعثرة تمثل تجربة ثرية وخبرة طويلة طرح خلالها المؤلف كثير من الأفكار العميقة الدلالة. وركز المؤلف على مسألة القمع كاشفاً عن آليات القمع اليومية في المجتمع العربي، وبين تلازم القمع وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن وبالتالي تجاه الآخرين من العرب والأجانب.. إنه كتاب متميز وفريد من نوعه نتعرف من خلاله على وجهة نظر يابانية قلما تعرفنا عليها.
|