أسدل الستار أواخر العام الماضي 1424هـ على مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة في دورته التاسعة عشرة، ليعود إلينا أو نعود إليه بإذن الله في دورته العشرين هذا العام 1425هـ، ويستأنف من خلاله مشوار الإبداع، متعة للأفئدة والأسماع والأبصار!
* *
ولقد مرت بخاطري قبل أيام أطياف معطرة بالرؤى عن الجنادرية، بدءاً بالموقع، مروراً بالحدث، وانتهاءً بملاحم الإبداع للتراث والثقافة التي أضحت (الجنادرية) اسماً لها ومسمى!
تراءت لي أطياف من الخيال في وصف (الجنادرية)، قائلة:
* في البدء، كانت (الجنادرية) مفردة (جغرافيا)، ولكن.. بلا (تاريخ).. ولا ذكر.. ولا ذكرى!
* *
* كانت الجنادرية (غادة برية) تفترش الصحراء.. وتتوسد الثرى، وتكابد ريح الوحشة ورياحها آناء الصيف وأطراف الشتاء! كان ربيعها كخريفها، طيفاً لا تكاد تدركه الأبصار، حتى الطيور المهاجرة كانت تعبر سماءها مسرعة.. إذ لا ماء فيها.. ولا زاد ولا ظل، وتظل عبر الفصول تبث شكواها للطيور السابحة أو الرياح العابرة، فلا زائر لها ولا حتى تائه أو عابر سبيل!
* *
* واليوم، غدت الجنادرية، الأرض والحدث والرمز الجميل، قلعة إبداع تزف من خلالها الثقافة والتراث كل عام إلى حواس الإنسان العربي سمعاً وبصراً، فكراً ووجداناً!
* فجأة.. تبدل الحال.. اقتحم عقل الإنسان وخياله سكون الجنادرية، لينهي اعتكافها الأزلي في صومعة الزمن.. ولحيل وحشتها ألفة.. وصمتها صخباً، وجدبها عطاً! أضحت الجنادرية واحة إبداع يكرم فيها التراث والثقافة كل عام في تظاهرة تأسر الحس والوجدان!
* *
لقد زفت غادة الصحراء.. (الجنادرية) قبل عقدين من الزمن.. إلى الفكر والتراث في عرس مهيب ما برح يتجدد هيبة وبهاءً عاماً بعد عام، بات لنا وللناس معنا في كل مكان، عبر الجنادرية، موعداً نترقبه.. ونهفو إليه، وأضحى للإبداع سحابة من لؤلؤ تمطر كلَّ حول.. فتشرق بضوئها وضوعها أرض الجنادرية، شعراً ونثراً ومسرحاً ورواية، وغدت ندوتها الفكرية معيناً ثقافياً ترتاده العقول من كل مكان، فيشعلها ويشغلها ويروي ظمأها! وهي بمقاييس عدة، معلم جميل تعرف به الجنادرية وتعرف، إقليمياً وعربياً!
* *
* على صعيد آخر، أثبتت (الجنادرية) عبر السنين قدرتها على تجسير الفجوة بين حاضر إنسان هذه الجزيرة وماضيه، وتجسيد التآخي بين أصالة جذره التليد، وجزالة عطائه المتجدد، منحت الجنادرية هوية هذا الإنسان بعداً رائعاً أسهم ويسهم في تصحيح ما علق في بعض الأذهان القريبة والبعيدة عنه من سوء في الفهم، وسقم في الظن، وعوج في الرؤية، كالقول بأنه لم ولن يقوم لهذا الإنسان شأن إلا بالبترول.. وأنه بالبترول وحده.. يكون هذا الإنسان أو لا يكون!
* *
* اليوم، أزعم أن في (الجنادرية) رداً موجزاً ومبدعاً لهذا المفهوم، لأنها تحكي سيرة هذا الإنسان.. تراثاً وفكراً وإبداعاً، يتجاوز أثره وتأثيره حدود الزمان والمكان ليعانق التاريخ، ماضيه وحاضره، ويقف شاهداًَ على انتماء ابن هذا البلد إلى (كوكب) العطاء الإنساني، وقدرته على التكيف مع ظروف زمانه ومكانه، عسراً ويسراً، قبل البترول وبعده!
* *
اختم هذه المداخلة بما يلي:
* 1): أود أن أورد هنا مقولة سمعتها وقرأت عنها مراراً، تتلخص في الدعوة إلى (استثمار) بعض مرافق البنية التحتية للجنادرية سياحياً بضعة أشهر في العالم, تكون (منتجعاً) تتعانق فيه (ثقافة) التراث مع بعض (ماديات) العصر الحديث، امتاعاً للعقل والبصر والبدن، وآلية ذلك أن تؤجر هذه المرافق للراغبين في الاستثمار سياحياً، مدة معينة من العام، ويستفاد من عائد عقود الإيجار لتطوير هذه المرافق وتحسين أدائها لصالح المهرجان السنوي والاستثمار السياحي.
* 2 ): ولعل من المناسب إيكال مهمة الإشراف والمتابعة لمشروع الاستثمار المقترح إلى لجنة من ذوي الاهتمام والاختصاص تحت مظلة الهيئة العليا للسياحة!
* 3): وأتمنى أن يقرأ هذا الحديث (فارس السياحة) سمو الأمير سلطان بن سلمان فيوليه سموه اهتماماً.. ويمنحه من ارادته مبادرة تسعد الجميع.
* *
* وأخيراً:
أتمنى ألا يشغلنا الفرح ب(الجنادرية) كل عام.. فلا نبحث عن سبل تطويرها، مضموناً وإخراجاً، لأن الإبداع لا سقف له ولا قاع!
|