كان الوقت يقارب السابعة وأربعين دقيقة من صباح يوم الأحد 16 محرم 1425هـ، فتحت باب البيت واتجهت نحو السيارة، فرأيت فتى يستظل بزاوية محراب المسجد الذي اسكن بجواره، اقتربت منه فإذا به يجلس فوق مصليته - كي لا يتسخ ثوبه- وكان مشغولاً جداً بإخراج أحد الدبابيس من كتابه المدرسي لدرجة أنه لم يشعر بي وأنا أقترب منه حتى وقفت إلى جواره، لم أشأ إفزاعه، فتنحنحت بلطف وبهدوء، ولكنه ارتبك ورفع إليّ بصره فإذا بعينين ذابلتين فيهما بقايا دموع، وعلى قسمات وجهه الهادئ الجميل علامات حزن وخوف وحيرة، حزنت من أجله حزناً شديداً، ولبرهة كلمح البصر تخيلته ابني فانتفضت الدنيا بأسرها من حولي، حاولت أن أبدد حزنه وأخفي حزني- ولكن هيهات- دنوت منه، وجرى بيننا هذا الحوار: قلت (مبتسماً): السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،قال (منكسراً): وعليكم السلام
حاولت أن اضحك ومازحته بالقول: ها.. انتقل الفصل إلى هنا!؟ نظر اليّ بحزن شديد، وبصوت خافت تمتم بشيء لم أسمعه.
قلت: لم أسمعك. أعاد نظرته تلك وقال: طردني الوكيل.
قلت: لماذا؟، قال: لأنني تأخرت.
قلت: لِمَ لم تَعُدْ إلى البيت وتخبر أهلك. ، قال: ذهبت إلى البيت، ولكن أمي نائمة ولم تسمع الجرس.
أخرجت الجوال من جيبي وقلت: اتصل بالبيت لعل الهاتف يكون قريباً من والدتك فترد عليك وتفتح لك الباب. رفض الفكرة قائلاً: الهاتف مفصول.
تفهمت موقفه وقلت: أبوك في البيت أم في العمل؟
قال: في العمل. قلت: اتصل به.
قال: لا أعرف رقمه. قلت: ما رأيك لو نذهب سوياً لوكيل المدرسة، وأنا متأكد أنه سيعفو عنك ويسمح لك بالدخول.
قال: لن أجلس هنا كثيراً، بعد قليل تصحو أمي من النوم. سألته عن اسم المدرسة، فإذا بها مدرسة متوسطة في الحي المجاور، أي أن الفتى أراد أن يبتعد ليس عن المدرسة فحسب، بل عن الحي بأكمله، ضاقت الدنيا في وجهه، لا يريد أن يرى أحداً, ولا يريد أن يراه أحد، ومن المؤكد أن هذا ما استطاع تنفيذه من خيارات كثيرة دارت في خلده لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. والأب مطمئن في عمله، والأم نائمة مطمئنة في بيتها، بالطبع لا ابرىء ساحتهما في سبب تأخير ابنهما عن المدرسة، ولكن لِمَ لا يطمئنان وفي ظنهما أن ابنهما في المدرسة يتلقى العلوم ويكتسب المعارف، ليصبح في المستقبل عضواً عاملاً في المجتمع!! وهنا أتساءل.. أيعقل هذا يا وكيل المدرسة؟ أو هكذا يكون الحل؟ أما كان الأجدر والأصح - إذا كان لا بد من العقاب- أن تتحمل شيئاً من العناء فترفع سماعة الهاتف وتتصل بولي أمر هذا التلميذ بدلاً من أن يطرد من حضن المدرسة ليرتمي في أحضان الشارع؟ وما أدراك ما الشارع؟؟
|