الحوار الوطني الذي دعا إليه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني بين فئات المجتمع ومثقفيه، وعُقد اجتماعه في مكة المكرمة، وسيُعقد في المدينة المنورة، كان له الأثر الكبير في تغيير الكثير من المفاهيم، وتأسيس مبدأ الحوار في المملكة. وقد نجح الحوار -ولله الحمد- نجاحاً كبيراً رغم ما يُقال عنه من عدم تحقيقه لكافة التطلعات والآمال. ولكن الحقيقة التي يجب ألاَّ تغيب عن البال هو أن ما تمَّ من اجتماع لفئات المجتمع المختلفة ممثلةً لجميع التوجهات في مكان واحد، وطرح مواضيع مهمة تلعب دوراً كبيراً في حياة المجتمع، يعدُّ إنجازاً حضارياً يدل على رقي وتطور المجتمع. ففي السابق كان البعض يجد صعوبة في أن يسمع رأيه المختلف أو أن يتقبل الرأي الآخر، وكان الجميع يتحاشى الخوض في المسائل الحيوية؛ خوفاً من ردَّة فعل الطرف الآخر، يحتفظ كل طرف برأيه مع ما في ذلك من نظرة شك وريبة إلى الآخرين وعدم تقبل لهم. وهذا في نظري هو تغطية وتأجيل للمشكلات التي قد تكبر مع الزمن ككرة الجليد التي يزداد حجمها كلما تدحرجت إلى أن تصل إلى حجم مدمر لما يعترض طريقها. وقد وفق الله صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله إلى التأكيد على ضرورة الحوار، وخاصة في ظل الأحداث التي تشهدها المنطقة، ففتح الباب على مصراعيه، واستطاع الجميع بكافة توجهاتهم الجلوس بمكان واحد، ودراسة مواضيع مهمة؛ مثل الإرهاب وعلاقة المملكة به وارتباطاته في المناهج، وتحاور الجميع، واتسع الصدر لسماع الآراء. وحتى المرأة كان حضورها واضحاً وجلياً، ورأيها مسموعاً. وقد خرج الجميع بتوصيات تمخَّضت عن الآراء والمداخلات التي تمَّت خلال الحوار. والحقيقة المؤكدة هو أن الاختلاف بين فئات المجتمع ومثقفيه ليس جذرياً في المملكة، ويرجع السبب إلى أن الجميع ينطلق من قاعدة واحدة أساسها منهج الدين الإسلامي الصحيح ثم المصلحة الوطنية. إذن الخلاف هو في بعض المسائل الجانبية، وربما حتى هذه المسائل يتفق معظم الناس عليها، ولكن عدم إتاحة الفرصة في الماضي لسماعها من الجميع أشاع جواً من التوتر والتحفز والخوف بأن الطرف الآخر لا يقبلها. وهذا غير صحيح؛ لأنه ما دامت الأساسيات متبنَّاة من الجميع، فلا مجال للاختلاف الجذري. خُذْ مثلاً موضوع الإرهاب، مَنْ الذي يقبله؟ ومَن الذي يقبل أن ينسب إلى الإسلام أو إلى مقررات تُدرس في مدارسنا؟ من المؤكد لا أحد يرضى أو يتصور أن تكون الكتب الدراسية التي تُدرَّس لصغارنا في مراحل التعليم العام أو لطلاب الجامعات تحتوي على مواد تُحرِّض على العنف والقتل بما ذلك قتل النفس. أسباب العنف معروفة، ولو كان للمناهج دور كبير فيها لأصبحنا جميعاً إرهابيين، فكلنا درسنا هذه المناهج. ومع ذلك فالفئات الضالة -ولله الحمد- لا تشكل نسبةً تُذكر من أبناء البلد، ولو أن الأعداء يحاولون البحث عن أي وسيلة لإلصاق التهم بأسباب تعود إلى مَن ينتمي للإسلام. لكن في الوقت نفسه تطوير المناهج كل المناهج مطلب مشروع، ويجب أن يُمارس باستمرار التحديث لما يخدم العملية التعليمية والبحثية في المملكة دون المساس بالثوابت التي ترتبط بديننا الحنيف أو وحدة الوطن وأمنه واستقراره.
إذاً مبدأ الحوار مهم جداً؛ لأنه يزيل السياج الحاجز، ويؤدي إلى تفاعل فئات المجتمع واستفادة بعضها من بعض، وحشد الطاقات والجهود من أجل توجيهها لمصلحة الوطن.
من الصعب تحقيق تقدُّم في أي مجال من مجالات الحياة ما لم يكن الجميع يعمل يداً واحدة في البناء.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
إذا كنتَ تبني وغيرك يهدم |
الحوار يُقرِّب بين وجهات النظر، ويسدُّ الثغرات، ويرتقي بالمستوى إلى الحد الذي يجعل الرأي الآخر يُحترم وإن اختُلف معه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما نرجوه هو أن يستمر الحوار على كافة المستويات، سواء في التعليم؛ حيث يتعلم الطالب مبدأ الحوار بالإفصاح عن وجهة نظره حيال ما يدرسه، بدلاً من أن يأتي للفصل وقد حفظ قطعة شعرية أو نثرية وهو لا يفهم معناها؛ لأنه لن يكلف بإبداء رأيه حيال ما يقوله الشاعر أو الكاتب، بل يُطلب منه تسميعها ويأخذ درجاتٍ على ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ ففي الشعر الكثير من المبالغات والشطحات، وفي النثر أيضاً. بل إن فيه ما يتعارض مع طبيعة البشر والواقع، ومع ذلك يُؤخذ من قِبَل الطالب أمراً مُسلَّماً به، ولا يكتشف التناقض وعدم الواقعية إلاَّ بعد وقت طويل. خُذْ مثلاً قول الشاعر الجاهلي:
ملأنا البرَّ حتى ضاق عنا
وماء البحر نملؤه سفينا |
هل هذا صحيح؟ وهل هو ممكن؟ بالطبع لا، فقوم الشاعر لا يملكون حتى قارباً صغيراً، ومع ذلك فالمدرس يطلب حفظ هذا البيت وكفى.
كذلك على المستوى الجامعي، فلا مجال -للأسف- للنقاش والحوار إلا في أضيق الحدود، وقد يتحجَّج أستاذ المادة بأن الوقت قصير، أو أن الطلاب كثر؛ ولذا يصبح أسلوب التعليم تلقيناً حتى في هذه المستويات العليا من التعليم. أما وضع الكُتَّاب والمثقفين بتوجهاتهم المختلفة، فالحال ليست بأحسن مما هو موجود في التعليم، فيكفي أن يكتب الكاتب مقالاً في الجريدة أو المجلة ويَرِد فيه بعض الآراء التي لم يتعوَّد عليها بعض الناس، فينبري بعضهم قدحاً ونقداً، وقد يعمدون إلى الاتصال الهاتفي وإسماع كاتب المقال كافة التهم والأوصاف غير اللائقة، فيضطر إلى كتابة مقال تعقيبي موضحاً وجهة نظره وما يقصده، فعندها فقط تهدأ النفوس. وقد يعتذر الكاتب مع أنه في مقاله السابق لم يمس الثوابت، ولم يقترب من الخطوط الحمراء كما يقال. ولكن بعض القرَّاء -هداهم الله- لم يُكلِّفوا أنفسهم جهد قراءة المقال بتأنٍّ، والاستفسار من كاتب المقال بأسلوب رزين ومتَّزن عمَّا يقصده.
ترى كم من الأفكار والآراء الخلاقة والإبداعات وُئِدَتْ في مهدها؛ لأن كُتَّابها لم يشاءوا أن يدخلوا في مهاترات مع مَن لم يفهم ما يقصدون؟!
وكم من عائب قولاً سليماً
وآفَتُه من الفهم السقيم |
توارى الكثير من هؤلاء عن الأنظار نتيجة غياب مبدأ الحوار، وانكفأ بعضهم على نفسه وآثر السلامة. لكن هل هذا هو الحل؟ بالطبع لا، فالهدف الأساسي من التعليم بجميع مراحله وتخصصاته هو تنمية الإنسان، وجعله لبنة صالحة تساهم مساهمةً فعالةً في نمو وتطور البلاد، إنساناً مبدعاً خلاَّقاً تنهض الأمة به وتلحق بركب الحضارة والرقي. أعتقد أن أكبر دليل على التأثير السلبي على غياب مبدأ الحوار هو ما تشهده الساحة من اختلاف كبير في التفاعل مع ما يطرحه الغرب من مبادرات وسياسات.
فالكثير منها -للأسف- ردَّات فعل عاطفية لا ترتكز على استراتيجيات قوية بعيدة المدى يتفق معظم الناس عليها تمت دراستها وإرساء دعائمها قبل أن يجعلها الغرب مجالاً للنقاش. هل نحن مثلاً محتاجون لآخرين ليقولوا لنا: غيِّروا مناهجكم، وافتحوا نوافذكم للآراء المختلفة؟ أم كان يجب أن تكون عملية المراجعة مستمرة لجميع المناهج والحوارات تجد أبواباً مشرعة، ولكن بحدود منضبطة.
ما أرجوه أن يكون الحوار عملية مستمرة، ليست موسمية، ولا نتيجة لردَّات فعل محاولة لإبعاد التهم عنا فقط، بل تكون أسلوباً ثابتاً راسخاً ومنهجاً حضارياً راسخ الجذور. كما أرجو أن يكون للحوار نتائج ملموسة ذات تأثير إيجابي وتوصيات تفعل، وألا يُسمح لأي فئة بالانكفاء على نفسها أو محاربة الآراء المختلفة واتهام ذويها بصفات هم منها براء. بهذا فقط نستطيع أن نبقي جذوة الحوار مشتعلة تضيء الطريق وتوضح معالمه.
زخم الحوار كبير، والجميع متفائل به ويرى فيه خلاصاً من التجافي وانعدام الثقة بين فئات المجتمع، لكن المهم أن يستمر الحوار بشفافية بعيداً عن التشنجات والانفعالات ذات المردود السلبي السيئ على أهداف الحوار. فالحذر الحذر من أن تنطفئ جذوة الحوار.
والله ولي التوفيق..
|