رصدت دراسة قدمت للمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم بعض الأمثلة التي تدلل على ما يحدث في إطار منظمة التجارة العالمية من إجراءات تعود بالخسائر على البلدان العربية وبلدان العالم الثالث. فقد استطاعت البلدان المتقدمة من أن تفرض تحرير قطاعات الخدمات كالخدمات المالية وخدمات الاتصال. وبوجه عام فإن البلدان النامية ليس لديها مصالح تصديرية في مثل هذه القطاعات ولذلك فإن المنافع تذهب بأجمعها إلى البلدان الصناعية المتقدمة. وفي نفس السياق فإن التجارة في تكنولوجيا المعلومات قد تم تحريرها كنتيجة لبند أدخله الغرب بصورة مفاجئة خلال الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سنغافورة عام 1996م وعادت لتفرض في الاجتماع الوزاري اللاحق عام 1998م في جنيف الإعفاء الجمركي على الاتجار الإلكتروني. وتلك مزايا لا يمتلكها إلا الغرب المصنع ولا تعود بالنفع على البلدان النامية ما دامت غير متطورة في تكنولوجيا المعلومات.
وتشير الدراسة إلى أنه لعل الأخطر من غيره هو ما جاء في الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات وبالذات الخدمات المالية والضغط على البلدان النامية بفتح أسواقها للخدمات المالية الأجنبية وبشكل لا يتناسب مع المصالح الوطنية لتلك البلدان.
وما حدث في آسيا سابقاً من أزمات مالية كان في أحد جوانبه نتيجة لمثل هذه الضغوطات التي ظل الغرب يمارسها لاختراق أسواق البلدان النامية. وفي الوقت الذي يفرض فيه على البلدان النامية ضرورة احترام بنود الاتفاقيات الصادرة عن منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بالتعامل التجاري متعدد الأطراف فإن البلدان المصنعة والولايات المتحدة بالذات مازالت تصدر قوانين أحادية الجانب وتتناقض مع روح الاتفاقيات منها القوانين لمعاقبة الشركات العالمية التي مع بعض الدول المعارضة لها ومما يؤدي إلى وجود حالة عدم التيقن والاضطراب بين البلدان النامية في تعاملها مع الغرب ضمن هذه الاتفاقيات الاقتصادية.
وتذكر الدراسة أنه وفقاً للاتفاقيات ضمن (الجات) عام 1994م يتاح للبلدان أن تحد وتقلص من استيراداتها في حالة وجود مشكلات في ميزان المدفوعات إلا أن الضغوط كبيرة من قبل البلدان المصنعة على البلدان النامية لتوسيع وارداتها وفتح أسواقها بصورة كاملة مما لا يتناسب مع روح الاتفاق أو المصالح الوطنية لتلك البلدان. بالإضافة الى ذلك فان التجارة الدولية كحقل من حقول العلاقات الدولية تتضمن تقديم التنازلات وربما لا يكون هذا عملاً خاطئاً بالضرورة ولكن بشرط أن تحصل على تنازلات بديلة من الطرف المقابل، ففي العلاقات الاقتصادية الدولية فإن الحصول على الحقوق يتطلب عملية مضنية من جولات التفاوض فعليه يصبح التنازل عن حق او التعهد بالتزام بدون أي منافع تتوقعها من الطرف المقابل أو تحصل عليها أمراً غريباً في عملية التفاوض الاقتصادي الدولي.
وطبقاً للدراسة فإن التحليل السابق يقود إلى التساؤل عن أسباب ضعف بلدان العالم الثالث والبلدان العربية في مواقفها التفاوضية وتذكر أن هناك مجموعتين من الأسباب أسباب رئيسية أو أساسية وأسباب إجرائية.
وإذا ما تناولنا الأسباب الرئيسية للإجابة على سؤال لماذا هذا الضعف التفاوضي بحسب الدراسة فعلينا أن نعود لجذور المشكلة ونأخذ في الاعتبار مصادر القوة المحتملة في هذا الحقل فهي القوة السياسية والاستراتيجية للبلدان العربية والعالم الثالث والقوة الاقتصادية وأخيراً القوة العددية. ومع استثناء محدود لعدد من دول العالم الثالث فإنها كمجموعة لا تمتلك النوعين الأولين من القوة. وما يبقى ممكناً للاستخدام هو القوة الثالثة العديدة والتي تتجلى في التضامن والتكتل، ولكن تلك البلدان لا تعرف أو لا تريد أن تعرف كيف يمكن استخدام القوة العددية. أما بالنسبة للبلدان العربية فهي تمتلك عناصر القوة الثلاث مما يؤهلها أن تكون طرفاً مؤثراً في فرض نظام تجاري دولي عادل لها وللعالم الثالث بأجمعه وهذا ما حدث في منتصف السبعينات عندما استخدم العرب قوتهم النفطية وتزعموا المناداة بنظام اقتصادي عالمي جديد مما اجبر الغرب إلى الجلوس الى مائدة الحوار بين الشمال والجنوب قبل أن يتم الالتفاف على ذلك في نهاية السبعينات.
وتقرر الدراسة أن هناك عجزاً في الرؤية السياسية في عديد من عواصم البلدان النامية والعربية لضرورة التضامن جنوب - جنوب او التضامن العربي. فالبعض من تلك الدول تعتقد بأنه من الأفضل لها أن تقوي روابطها بصورة ثنائية مع احدى البلدان المصنعة القوية ومجاملتها بدلاً من الذهاب إلى المعسكر التضامني والذي قد يجر لها المصاعب. أما البعض الآخر فيعتقد بأن له من الأهمية الجيوسياسية والمكانة بحيث يصبح من الأفضل له أن يتبع التفاوض الثنائي بدلاً من التفاوض متعدد الأطراف في علاقاته الاقتصادية الدولية. وعلى النقيض من ذلك نلحظ أن هناك عدداً كبيراً من البلدان النامية الصغيرة والناشئة تعاني من الإحباط والشعور بالنقص مما يجعلها تعزف عن الدعوة إلى التضامن أو الانخراط في إطاره نتيجة لإحساسها بالضآلة وعدم القدرة على التأثير في الأحداث.
وعلى رب العالمين الاتكال.
|