إنها حكايات تُساق، وما أكثرها، وهي من صنع الرواة، يحيكونها ويملأون بها الدفاتر، وتُلقى في الأسماء ليتسلَّى بها الساهرون والذين يحتفون بها، ويسعون إلى الحكواتية المتفرغين لهذه الصناعة، وما أكثر ما حفلت الكتب بهذه الأقاويل.. إنها أحاديث للتسلية مما يحكيه الرواة، ومؤلِّفنا ينقل ذلك على علاَّته، بلا احتياط ولا تمحيص.!
* ولا أريد أن أتَّهم الأستاذ هزاع بأنه يحفل بأحاديث التخاريف، وقد قرأتُ في ص(49) شيئاً من ذلك، وودَدْتُ من الكاتب ألا يُعوِّل على ذلك، ولا ينقله إلى القرَّاء اليوم، وقد يصلح ذلك في سهرات التسالي التي تدور فيها حكايات الزير سالم وعنترة، من تلك الكتب الرخيصة، غير أن رجلاً يكتب اليوم عن دولة فيها أبطال وحققت فتوحات وإنجازات، وعنوان كتابه (الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي)، فيدفع بما يسميه أهل مكة -عجر وبجر- ثم يُقدِّمه إلى المُثقَّفين، وأنا لن أجرؤ مثل الأستاذ هزاع، فأُقدِّم تلك الحكاية وذلك الشعر المُصنَّع الذي قدَّمته تلك الفتيات إلى الحجَّاج، وقد بكى الأمير حين سمع بقصَّتهنَّ وقصَّة والدهنَّ -أسلم بن عبيد البكري المُتَّهم- وأن الخليفة يريد قطع رأسه. وأنا مُضْطَرٌّ إلى أن أقول: إذا كان التاريخ مثل هذه الأساطير، فعلى التاريخ السلام والتحية.!
* في ص(50) يورد الكاتب بعض أقوال المؤرخين والكتاب، ومنهم -شلبي- صاحب التاريخ الإسلامي في العصر الحديث، الذي وصف الحجَّاج بقوله: (أمَّا الحجَّاج فهو فيما نعرف أشهر قُوَّاد المسلمين، وربما جاءت شهرته من ناحية بطولته ومقدرته الحربية في أنه استطاع أن يُثبِّت عرش بني أُمية). وكما قلتُ آنفاً فإن أكثر المؤرخين ممَّن على شاكلة الشلبي الذي يعيش بيننا اليوم، يبالغون.. ولا يجعلون للقارئ قيمةً في تقدير الأمور وتصديقهم.. ونسأل الدكتور شلبي: أين خالد بن الوليد، وأبو عبادة، وأبو مسلم الخراساني، وصلاح الدين، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد.. وأمثالهم كثير؟! ولو قال مُؤرِّخنا: إن الحجاج من أشهر القادة، لقَبِلْنَا قولَه، إلا إذا كان حرف الجرِّ (مِن) قد سقط من الأخ هزاع الشمري في نقله، فالأمر يومئذ طَبَعِيٌّ.!
* يُثني كاتبنا على الحجَّاج ثناءً بلا حدود ولا تحفُّظ، فيقول في ص(51): (ونظراً لهِمَّته وعلوِّ نَفْسِه فقد ظلَّ مرفوع الرأس أمام جميع الخلفاء وأبنائهم، وما مواقفُه مع سليمان بن عبدالملك، ولي عهد الوليد، ومقارعتُه له إلا لوناً من نظافة يد الحجَّاج.. إلخ). الحجاج كان يحتمي بالوليد، وكان يحميه، لكن حينما مرض الخليفة أصبح الحجاج فَزِعاً خائفاً يترقب، وقد مرَّ بنا أنه كان يدعو ربَّه أن يُميته قبل عبدالملك، وذلك لخوفه من سليمان. ولو كان الحجاج داهيةً -كما يقول المُؤرِّخون وينقل كاتبنا- لكانت العلاقة مع ولي العهد الأموي رُخاءً، ويحتاط الحجَّاج لمتغيرات الأيام، ولعل الحجَّاج قد ندم بآخرة على الجفاء الذي كان بينه وبين سليمان.! وأقول للأستاذ هزاع الشمري: ما كل ما يُكتب صحيح في التاريخ وغيره، ولا يُصدَّق بالسهولة التي يتبعها الكاتب.!
* وفي الصفحة نفسها نقرأ للكاتب قوله: (حينما نقرأ لكثير من المؤرخين عن الحجَّاج يتبادر إلى ذهنك قسوته وجبروته وصرامته وغطرسته وميله إلى رأيه الشخصي (وهو ما نسميه الذاتية)، ولكن واقع الحال أن كل هذا كان فيه مبالغات كبيرة.. إلخ). وحديث الكاتب يشبه الأحاديث الصحافية التي لا يُعوَّل عليها، وأيَّ واقع حال تعني يا أستاذ هزاع؟ وما دليلك على نفي ما قاله المؤرِّخون عن الحجَّاج؟ لا شيء! إذاً فكلامك مردود عليك، ولا أقول: إن كل ما قاله المؤرخون عن الحجَّاج وعن غيره وعن كل شجون وشؤون التاريخ صحيح، بل إن الصحيح نسبة يسيرة محدودة.. ولستُ مُصِرًّا على القول للأخ الكاتب: إن هذه الأمور لا يُقضى فيها بجرَّة قلم كما يُقال، وإنما هي في حاجة إلى دراية وتمحيص وطول نظر ومراجعة ودقَّة؛ لأنه من الصعب جداً القطع برأي في التاريخ ورفض ما قاله ويقوله الآخرون بمجرد اختلاف رأي، وعند أي مقولة لا تناسب مزاجك فترفضها وأنت لا تملك شيئاً من أدلَّة النقض لما رأيت.!
* قال -وقالوا يا أستاذ هزاع كلام بلا دليل! ولعلك تذكر قول الحق في الكتاب العزيز: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} النساء (82).. وما أكثر ما كُذِبَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث نُسبت إليه، والسُّنَّة المُطهَّرة هي المصدر الثاني بعد الكتاب العزيز في التشريع في الدستور الإسلامي.. لقد رأيتُ الأستاذ هزاع يسوق حكايات باسم التاريخ، مثل الذين يُرسلون هذه الحكايات في أسمارهم لتزجية الوقت، أما الحقائق فعِلْمُها عند الله.!
|