Saturday 13th March,200411489العددالسبت 22 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
النقد المتحامل
عبد الرحمن صالح العشماوي

هنالك ناقد متحامل، وظيفته النَّيْل من الآخرين بدافع غيرة وحسد، أو بسبب موقفٍ شخصي لا علاقة له بالنقد، يظل يسقطه على كلِّ ما يتحدَّث به عمن ينقده، ومن أبرز صفات هذا الناقد المتحامل، أنه لا يعتمد على معلومة صحيحة، ولا على قاعدة نقدية سليمة، لأنَّ الهوى قد أعماه عن ذلك كلِّه، وهنالك متلقِّفون لما يقوله ذلك الناقد المتحامل، يعملون على ترويجه، ويميلون إليه لأسبابٍ كثيرة لا تخرج عن دائرة الغيرة والحسد، لأن من الناس منْ يضايقه نجاح الناجحين، وإبداع المبدعين، فيصبح همُّه النيل منهم، ويفرح بكل نقدٍ متحاملٍ عليهم وإليك هذا المثال:
كان ابن الأعرابي اللغوي الناقد شديد الإعجاب بأبي العتاهية شاعر الزهديات الشهير، وقد مدحه في مجلسه ذات يوم، فقال له رجل: ما شعر أبي العتاهية بمستحق لما تقول، قال ابن الأعرابي: ولماذا؟ قال: لأن شعره ضعيف، فقال ابن الأعرابي - وكانت فيه حِدَّة - الضعيف - والله - عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول: إنه ضعيف الشعر، فوالله ما رأيت شاعراً قَطُّ أطبعَ ولا أقدرَ على بيتٍ منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربأً من السحر، ثم أنشد له:


قطَّعتُ منك حبائل الآمالِ
وحَطَطْتُ عن ظهر المطيِّ رحالي
ووجدتُ بَرْدَ اليأس بين جوانحي
فأَرَحْتُ من حَل ومن ترْحالِ
يا أيُّها البطِرُ الذي هو من غدٍ
في قبره متمزِّق الأَوصالِ
حَذَفَ المُنى عنه المشمِّرُ في الهدى
وأرى مُناك طويلةَ الأذيالِ
حِيَلُ ابن آدمَ في الأمور كثيرةٌ
والموتُ يقطع حيلةَ المحتالِ
قِسْتُ السؤال، فكان أعظم قيمةً
من كل عارفةٍ جرتْ بسؤالِ
فإذا ابتُليتَ ببذل وجهك سائلاً
فابذُلْه للمتكرِّم المفضال

ثم قال للرجل: هل تعرف شاعراً يُحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، جعلني الله فداءك، إني لم أردُدْ عليك ما قلتَ، ولكنَّ الزُّهدَ مذهبُ أبي العتاهية، وشعره في المديح ضعيف.
قال ابن الأعرابي: أفليس هو الذي يقول في مدح هارون الرشيد:


وهارونُ ماءُ المُزْنِ يُشفى به الصَّدى
إذا ما الصَّدي بالريق غصَّتْ حناجرُهْ
وأوسطُ بيتٍ في قريشٍ لَبَيْتُه
وأوَّلُ عز في قريش وآخرُهْ
وزَحْفٍ له تحكي البروقَ سيوفُه
وتحكي الرعودَ القاصفاتِ حوافرُهْ
إذا حميَتْ شمس النهار تضاحكتْ
إلى الشمس فيه بّيْضُه ومغافرهْ
إذا نُكِبَ الإسلام يوماً بنكبةٍ
فهارون من بين البريَّة ثائرُهْ

قال: فتخلَّص الرجل من الموقف بقوله لابن الأعرابي: القول ما قلتَ يا أبا عبد الله، وما كنتُ سمعت لأبي العتاهية مثل هذين الشعرين، وكتب الأبيات عنه.
هنا نرى أثر التسرُّع في نقل الأحكام النقدية المتحاملة التي لا تعتمد على دراسة الموضوع، أو الأبيات الشعرية، وإنما تعتمد على نقل الآراء (الطيَّارة) التي لا تقوم على معرفةٍ ودرايةٍ واستقراء.
ولذلك استطاع ابن الأعرابي أن يُزيل ذلك الوهم عن ذهن الرجل، فقول ذلك الرجل: عن أبي العتاهية: إنُّه ضعيف الشعر، قولٌ تائه في الفضاء، وكلمة عامة وافق بها الرجل هوى حسَّاد الشاعر وقد كانوا كثيرين في وقته، والدليل على أن حكم الرجل عائمٌ غير صحيح، سكوته أمام ابن الأعرابي الذي اعتمد على شواهد الشعر، لا على الموقف الشخصي من الشاعر، ومن المؤكد أن ذلك الرجل لم يقرأ شعر أبي العتاهية قراءة جادَّة بدليل أنه قال: وما كنتُ سمعت لأبي العتاهية مثل هذين الشعرين، سبحان الله، فلماذا إذنْ تحكم على شعره بالضعف؟.
إشارة


بحسب ابن آدم إثماً أن يحدث بكل ما سمع.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved