كنت كغيري أهتم بالحديث بحرية عن المشاكل البعيدة جداً عن الواقع الذي نعيش فيه ، بلا رهبة أو (خوف) من مغبة تناول أبعادها المختلفة. .، وذلك الاهتمام كان أيضاً جزءاً من مشاهد على مستويات أعم..سواء كانت اجتماعية وإعلامية وأيضاً سياسية،..لذا كان للمشكلة في سيرتها المحلية أبعاد زمنية ومكانية ،وتاريخ طويل قد يصعب تحديد بداياته على وجه الدقة، فمنذ عقود كانت المشكلة لدينا تكمن في غابات أستراليا المشتعلة بنيران الحرائق التي لا تتوقف عن إتلاف الأشجار والمحاصيل، وكانت في فيضانات الهند وبنغلاديش ، أو في حادثة تصادم قطارين في إحدى دول أوروبا الشرقية، أو في مواسم الجفاف والجوع في أفريقيا.
ومنذ عقود مضت كان يكاد لا يخرج أي طرح ثقافي محلي من دون الإشارة تصريحاً أو تلميحاً إلى جذور (المشكلة) العربية في فلسطين المحتلة، او من مناداة للحلول الواجب اتباعها للخلاص من أسبابها ونتائجها، وربما كان لحجم مأساتها وعظم آثارها على الواقع قدرة غير عادية على حجب المشاكل والمتاعب التي يمر بها الإنسان العربي آنذاك، وربما لم تكن هناك (مشكلة) محلية، فالأفكار المتناولة لم تكن تتجاوز الدعاء والشكر لله على نعمة الكفاف والعيش في حياة كريمة، ولكن يبدو أن زحف (المشكلة) باتجاهنا قد بدأ منذ فترة زمنية قصيرة، فالمشكلة التي كانت لعقود بعيدة كل البعد عن الواقع المحلي أصبحت الآن في وسط الدار، ومثاراً للخلاف والصراع الحاد، وصارت تتصدر المقالات وعناوين الأخبار المحلية، فالكل يبحث عن (الحل) للمشكلة التي تؤرقه في محيط مجتمعه أو في بيئة عمله ،أو في صعوبة فرض فلسفته الاجتماعية على سبيل المثال.
ولا يجب على أية حال تجاوز نتائج ارتفاع معدلات الوعي بكل ما يحمله من إيجابيات وسلبيات، لكن الاختلاف والخلاف في هيئته المحلية أصبح في تحديد ماهية (المشكلة) أو ما هو الحل؟ ، فالكل صار يردد من جانبه..(إذا لم تكن جزءاً من الحل فأنت جزء من المشكلة) ،أو على طريقة إذا لم تكن معي فأنت ضدي ، أو قانون تصفية الآخر بأي ثمن، حتى وإن تجاوزت أساليبه الاقصائية الحد المعقول.
وهي حالة من المأساة التي مرّ بها الإنسان الغربي في قرون خلت، والتي كانت تتهاوى إلى نقطة الصفر كلما اقترب من عنق الزجاجة أو قمة الجبل أو كما صورها جبران خليل جبران في مأساة (سيزيف) الذي حكم عليه زيوس بلعنة أبدية بأن يقضي الأبد في الجحيم يدفع حجراً ضخماً إلى قمة جبل شاهق حتى إذا ما بلغ القمة تهاوى منه الحجر إلى القاع من جديد ليهبط وراءه ويعاود الكرة مرة إثر مرة بلا نهاية، كأنما زيوس أدرك أنه ما من عذاب يعانيه الإنسان أقسى من الجهد الذي لا طائل من ورائه..وهذه الأسطورة تمثل في نظر الكثير من الفلاسفة و المفكرين... المأساة..بكل ما تحمله من آلام وأحزان و تراجيديا قاسية ، وتكمن قمة مأساويتها في أن سيزيف كان على وعي بحقيقة عذابه لكنه بلا إرادة عاجز عن الفرار من هذا الواقع.
وقد حلّق ذلك الهاجس المأساوي في مخيلتي للحظات حين قرأت ما نشرته إحدى الجرائد المحلية عمّا ستسفر عنه قضية الحسبة التي باشرتها محكمة الجبيل شرق السعودية ضد صحافي سعودي مارس مهنته بحرية مسؤولة إثر إجرائه تحقيقاً حول مطالبة (عدد من أبناء المدينة) بفتح سوق العمل للنساء بدل الرجال في محلات بيع الملابس الداخلية النسائية ومحلات بيع أدوات التجميل والعطور، فالمحكمة استدعت الصحفي السعودي سعيد الشهراني المحرر في جريدة (الوطن) السعودية لقضية الاحتساب، والتي تقدم بها (مواطن)! يطالب فيها بمعاقبته وردعه عن التطاول على أعراض المسلمين والمسلمات وآدابهم وعفاف نسائهم ومحاداة شرع الله، وأن التحقيق الذي أجراه الصحافي يفتح أبواباً لا يسهل إغلاقها وأنها خروج عن المألوف والآداب العامة. . !)..وحال صحفي جريدة الوطن سعيد الشهراني، وما قد يحدث له يحكي قصة الواقع أو المأساة كما عبّرت عنها قصة سيزيف، بينما يقوم بدور المواطن الذي رفع قضية الاحتساب طيب الذكر الفارس (دون كيشوت)، والإنسان يعتبر دونكيشوتياً إذا كان يقدم مثالية قاسية، ومع انه يحمل رسالة مثالية وطوباوية إلا أنه لا يحظى بقبول الآخرين..! ودون كيشوت فارس من نوع مختلف ، وبطل رواية للأديب الأسباني (سيرفانتس) (1547- 1616م)، تحكي أبعاداً اخرى من المأساة، لكنها أيضاً أسطورة مثل رواية (سيزيف)، وحالة التشابه هي في أنهما يواجهان واقعاً هو المعاناة أو (المشكلة)، إلا أن عقاب (سيزيف أبدي.. بينما (دون كيشوت) قرر الخروج على الواقع انتصاراً للمثالية وللفضيلة ، فبدأ خروجه الأول بمحاربة طواحين الهواء، (التي لم يرها من ذي قبل )، اذ توهم انها شياطين ذات أذرع هائلة واعتقد انها مصدر الشر في الدنيا، ليدخل بعد ذلك معركة الاغنام الشهيرة، فلا يكاد (دون كيشوت) يبصر غبار قطيع من الاغنام يملأ الجو حتى يخيل إليه انه زحف جيش جرار فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي اتاحها له القدر ليثبت فيها إقدامه وجرأته في مهمة الدفاع عن (المثالية والفضيلة)، وتنتهي المعركة بقتل عدد كبير من الاغنام وسقوط الفارس دون كيشوت نفسه تحت وابل من (أحجار الرعاة)، يفقد بسببها بعض (أسنانه).
وتتوالى مغامرات دون كيشوت الذي يسحب وراءه أتباعه المغلوب على أمرهم، لتتوالى هزائمه في كل المعارك التي خاضها، وهو في كل مرة يدرك انه قد هُزم بالفعل، لكنه لا يفسر الأمر على الوجه الصحيح، فيرجعه أحياناً إلى المؤامرة الدنيئة، أو يفسره على ان خصومه من (السحرة) الذين ارادوا حرمانه من نصر مؤكد، فمسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين إلى طواحين هواء، ومسخوا الفرسان المحاربين إلى اغنام.. لكنني في لحظة يقظة طردت اوهام ربط واقع ذلك الصحفي بشخصية (سيزيف)، وموقف المواطن (المحتسب) بشخصية دون كيشوت، فلعل القضية غير صحيحة أو أن الخبر الذي نُشر..في جريدة الشرق الأوسط يوم الأربعاء الماضي، والموافق (10مارس 2004) يحمل بين سطوره مبالغة كبيرة تتطلبها الإثارة الصحفية..، ولم أكتفِ بذلك فقد قررت بعد هذا الكابوس (الروائي) ان اتوقف عن قراءة ذلك النوع من الروايات، وأن أعود كما كنت في الماضي أبحث عن الأحداث والحرائق والفيضانات في البلاد البعيدة، وبذلك يتوقف الألم..للأبد، ويرجع الأمر كما كان في السابق..حوار هادئ عن الآخر البعيد جداً عن واقعنا (المثالي)!. .
|