نظراً لما جبلت عليه المرأة من الرحمة والرقة وغلبة العاطفة فقد كانت علاقتها بمهنة التمريض قديمة قدم الإنسان ذاته، حيث مارست المرأة هذه المهنة، بل كانت مهنة التمريض في أوقات كثيرة حكراً على المرأة، وغير مسموح للرجال بممارستها، ولنا في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين الأسوة الحسنة، فقد علمنا عن طريق كتب السيرة بالتواتر أن المرأة كانت تشارك الرجال في الغزوات والحروب، وتقوم بإطعام الجيش وسقايته وتمريضه، وهل أقدر من المرأة على القيام بهذا العمل الإنساني الجليل وهي تملك بالفطرة الرقة والحنان والشفقة والتفاني؟
وفي هذا الشأن والحديث يكثر الآن عن عمل المرأة في هذه المهنة، وتتفاوت الآراء بين مؤيد ورافض، وبين محبذ ومستغرب، دعونا نقف أمام المستجدات التي طرأت على شؤون الصحة، وما نراه من تخصص أطباء ذكور في معالجة أمراض نسائية وفي التوليد والتمريض وغيره، وهنا أيضا يكمن خطر الاختلاط والخلوة والشبهة، فإلى أين يمكن أن يصل الحوار الجاري الآن حول هذه المسألة للوصول إلى قناعة مشتركة على أرضية صحيحة.
هناك من يؤيد وينادي ب(سعودة) مهنة التمريض، بحيث يسمح للمرأة السعودية العمل بالتمريض على نطاق واسع في المملكة من دون ضوابط، وحجتهم في أن هذا العمل يوفر للمرأة دخلاً مادياً يساعدها على مشاق الحياة، خاصة المرأة التي لم تتح لها الظروف مواصلة الدراسة وصولاً إلى شهادة جامعية تؤهلها لفرص عمل كثيرة، أو للمرأة التي تعرضت إلى ظروف معينة في حياتها جعلتها في موقع المسؤولية عن أسرتها، ولا تجد أمامها غير البحث عن مهنة تناسب وضعها الاجتماعي، وقد تكون الفرصة الممكنة والمتاحة واللائقة هي مهنة التمريض، هذه المهنة الإنسانية التي تسمو فوق كل المهن التي تتقلدها نساؤنا الآن، وهناك راي آخر يواكب متطلبات العصر مع الاحتفاظ بالشخصية الإسلامية المتميزة، ويسمح للمرأة المحتشمة أن تمارس عمل التمريض وفق ضوابط الشرع، التي تحصن المرأة في إطار مهنة تحفظ لها شخصيتها وأنوثتها وخفرها، وتبعدها عن مواطن الشك والاتهام، والرأي الثالث ينادي بمنع المرأة من أي نشاط أو عمل خارج بيتها، متجاهلاً الظروف والمستجدات التي تتطلب نظرة واقعية للحياة اليوم.
وبشكل عام ومن منطلق مبدئي وقاعدة سلوكية متعارف عليها في محيط المرأة العاملة وهي تختص بالمرأة نفسها، تلك المرأة التي تتمسك بالسلوك الطاهر والمستقيم، وتتحلى بسمعة طيبة، وبأخلاق حميدة مؤسسة ومستقاة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف الذي يصون ويحفظ المرأة، تلك المرأة التي تحمل هذه الصفات وتلتزم بآداب القواعد السلوكية الفاضلة لا أحد من العقلاء سيقف في وجهها، أو ضد ممارستها العمل والسعي للكسب الحلال الذي يعينها وأسرتها على تحمل أعباء الحياة.. عندما تصل القناعات إلى هذا الحد عندها يمكن للمرأة أن تزاول أي عمل يليق بها، لكن المطلوب الأهم هو أن يمارس الرجل أو المرأة المهنة التي تتناسب مع قدرات كل منهما على قاعدة (الشخص المناسب في المكان المناسب).
وفي هذا النطاق أفتى عدد من شيوخنا وعلمائنا الأفاضل فتاوى عديدة بأنه لا يجوز للمرأة في المجتمع الإسلامي أن تعمل عملاً لا يليق بطبيعتها أو يتنافى مع وظيفتها في الحياة إذ إن من غير المعقول ولا المنطق ولا الدين ولا مقتضى الفطرة التي فطر الله سبحانه الناس عليها أن نستسيغ عمل جنس بأعمال تخص الجنس الآخر، فكل جنس مسخر لمزاولة أعمال لا يستطيع أو ليس من اللائق أن يمارسها الجنس الآخر.! ومن المفارقات أن يخترق الرجل هذا النطاق ويعمل في مهنة تجميل النساء مثلا كما يحدث في دول مجاورة، حيث من المفترض أن تكون خاصة بالنساء دراسة وممارسة وتطبيقا في كل الحالات، ثم لا نجد من يعترض؟ ولنا أن نتصور عندما يمارس الرجل مهنة تصفيف الشعر للسيدات، وتجميل الوجه، والتعامل باللمس مع البشرة، وفي رسم العيون وتحديد الشفاه وإزالة البثور وتركيب كريمات التجميل وما يستتبع ذلك من حديث وملامسة وخلوة وشبهة مما يعرض المرأة إلى مواقف غير مستحبة، وهذا لا يعني بأن نتهم الرجال لا أبداً ولكني أتحدث عن المواقع الشرعية التي بالأساس شرعت كي تسمو بالمرأة وتضعها فوق الشبهات وتحافظ عليها وعلى أنوثتها وطهارتها وسمعتها.
ومن المفارقات التي بدأنا نشاهدها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية هي جنوح بعض الرجال إلى جلسات تجميل تشبهاً بالنساء، بترددهم على صالونات التجميل التي تقوم بإجراء ترميم وتجميل للوجه لا تليق بالرجال بل تقربهم من الصفات الأنثوية، هذا في بعض المجتمعات المسلمة، وأما ما يجري خارج بلادنا الإسلامية فهو أدهى وأمرّ حتى بات التفريق بالشكل بين امرأة ورجل أمراً في غاية الصعوبة والعياذ بالله، مما يجعلنا نقول: يجب أن ألا نسعى إلى التقليد الأعمى فلكل مجتمع سماته (وليس بعد الكفر ذنب).
بعد هذا، ولو عرف كل امرئ حدود الله وحدود جنسه وأخلاقه وكماله، لا أعتقد والله أعلم أن مشايخنا وعلماءنا حفظهم الله يعترضون على ولوج المرأة السعودية معترك مهنة التمريض، لأن عمل المرأة مشروط بتوافر أمور ضرورية وجوهرية وكلها في صالح المرأة ومن هذه الشروط والضوابط الشرعية عدم الاختلاط المفضي إلى الخلوة، والبعد عن التبرج، ومن ثم فلا مانع من عمل المرأة في مهنة التمريض شريطة أن تعمل في مشفى خاص بالنساء من مديرته إلى آخر موظفة تعمل في السنترال، وهذا لعمري حق اليقين والصواب.
لكن تبقى المعضلة التي تشبه التمني أن نجد كثيراً من المستشفيات في الرياض مثل وقد بدأت تسمح لبناتنا بدخولها والعمل فيها، والسؤال الملح إلى متى نعتمد على العنصر النسائي الأجنبي في مهنة التمريض؟ متجاهلين الآثار التي تنعكس على المجتمع والوطن اقتصاديا واعتباريا من احتكار العمل في مهنة التمريض للأجنبيات؟
وتبقى الأجابة عن هذا السؤال المهم عند مسؤولي وزارة الصحة، بعد الرجوع طبعا إلى شيوخنا وعلمائنا الأجلاء، وعند شرائح المجتمع المختلفة التي انقسمت بين مؤيد داعم ومتحمس، وبين معارض رافض لكرة (سعودة) مهنة التمريض، هذا والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الرياض - فاكس: 014803452 |