إن الأصل في الواعظ والإمام هو صواب فعلهما وإصابتهما للسنة والصحة، لذلك فإن من نافلة القول حشو المقال بمدحهما وتبيان صوابهما.. ثم لنعلم أننا - نحن المسلمين - قد تمر علينا مواقف سنكون في إحداها واعظين وفي الأخرى أئمة مما يتوجب علينا أن نقتدي بالمجيدين من غيرنا، ونتقي أخطاء المسيئين أيضاً.. ولا يلزم ممن ينبه على الأخطاء أن يكون منزها عنها بالكامل، فالإنسان يسهو وينسى:
وما سمّي الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا أنه يتقلب |
في الوعظ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دعائم الدين وأساسياته، وقد عدّه بعض العلماء كالركن السادس من أركان الإسلام، ولا يلزم أن تكون من منسوبي سفينة النجاة ليتعين عليك الوعظ والنصح، بل هو واجب عليك إن وضح الدليل واستبانت الحجة.
ومما يجب على الواعظ في وعظه ألا يطيل فيمل.. ولا يختصر فيخل.. بل يكون بين بين، ولعل من المنتشر بين كثير من الوعاظ الإطالة المسرفة في وعظهم، فيمل منهم السامع ويقل تأثير الوعظ عليه ان لم ينعدم، وهذا شيء ملاحظ وواضح فنحن نرى ونسمع ويجب أن نتكلم، وفي كلامنا هذا فائدة مرجوة للطرفين، الواعظ والموعوظ ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - معلم البشرية كان يتخول أصحابه بالموعظة، أي لا يجعل شأنه كله في حديثه الوعظ والتذكير فقط، بل يعلمهم ويمازحهم ويفتيهم ويعظهم، مما يعني ان ايجاز الوعظ بأسلوب مؤثر أعظم أثراً من إطالته ولو أفاد.
ويجب على الواعظ أيضا أن يسرد أدلته في نصيحته، وألا يكتفي بالتحذير والوعد والوعيد وعظاً (ناشفاً)، وخصوصاً في الموضوعات التي قد تخفى أدلتها على السامع بنسيان أو جهل. ومما يجدر التنبيه عليه في هذا الصدد أن كثرة من الوعاظ لا يعتمد في وعظه على (قال الله وقال رسوله وصحابته) بل على (قال الشيخ فلان والشيخ علان) وهذا لا ينبغي، بل يجب عليه أن يستدل بقول الشارع، أو بقول شيخه ولكنه مدعم بالدليل.
ومما يجب على الواعظ تجنبه الإسراف في الوعظ - لا بالإطالة - وإنما بالخروج من دائرة الحلال إلى الحرام من غير دليل ورد ولا أثر ثبت، بل هو اجتهاد وقياس ممن ليس أهلاً للاجتهاد ولا للقياس.
دخل أحد الوعاظ على شباب مجتمعين، وأخذ ينصحهم في قضية (غض البصر) نصيحة جيدة انشدّت لها أذهان الشباب، ولكن الواعظ شط في وعظه في معرض حديثه عن الأشياء التي يجب على المسلم غض بصره عنها، فقال: (ولا ينبغي علينا أن نطيل النظر في السيارات الفارهة!!) فعلق صاحب دعابة من هؤلاء الشباب قائلاً: (لي النظرة الأولى، والثانية للشيطان!!)، فضحك الجميع بما فيهم الواعظ، وترى في تعابير وجهه أنه أحس بتجاوزه فمثل هذه الحادثة نسوقها هنا ليحذر بعض الوعاظ من الخروج على حدود الدين بتحريم الحلال أو العكس مستنداً على اجتهاد شخصي مرفوض، أو قياس ذاتي منقوض!!
وكما أن هناك من يتشدد في تحريم الحلال، فهناك من يتهاون في تحليل الحرام او استساغة المكروه بحجة مرونة الدين ويسر الشريعة! ومثل هذا الحكم يجيء - غالباً - تحت وطأة الاتهام بالتشدد في الدين وعدم الأخذ بالسعة واليسر، وعلى الواعظ ألاّ يلتفت لمثل هذه الدعاوى وألا تأخذه في الحق لومة لائم، فهناك حدود في الحلال وكذلك في الحرام لا يمكن تجاوزها في أي حال من الأحوال سواء أكان تحت غطاء اليسر والتسهيل أو غيره، إلا ما نعلمه من الضرورة التي تبيح المحظور.
ومما يلحظ على بعض الوعاظ ان وعظه يكاد يكون مقصوراً فيما بعد أداء صلاة الجمعة، حتى اتخذ من ذلك عادة يصعب عليه الانفكاك عنها! فيصح لنا أن نصفه ب(الخطيب النافلة)!! لأنه (يتنقل) خطبة فوق الخطبة (المفروضة)، فتراه يهجم على الناس قبل أن يعتدل الامام بعد السلام! ويلقى خطبته العصماء بعد أن يكيل المدائح للإمام ولخطبته كي يتسع صدر الإمام لخطبه في الجمع القادمة!!
ومما لا يليق بحكمة الواعظ (استعجال النتائج).. فترى بعضهم يضيق صدره عندما لا يرى نتائج وعظه ماثلة أمامه عياناً، وربما أدى به ذلك إلى اليأس تماماً، ولا يعلم أن عليه البلاغ فقط وعلى الله الحساب.
وآخر ما نورده في شأن الوعاظ أن أجرهم محفوظ عند ربهم - بإذنه تعالى - على قدر نياتهم لما يعملونه من تبصير وتبليغ لأمر الله، ولا يجب عليهم استعجال النتائج أو اليأس من انعدام الأثر أو قلته - كما أسلفنا - فإن الله مع الصابرين.
في الإمامة
الإمامة مسؤولية عظيمة يجب على الإمام أن يعيها ويعرف حجم ما ألقي على كاهله من مسؤوليات جسام جراء توليه لهذا المقام الحساس.
ومما يخل بمسؤولية الإمام ويجعله عرضة للإثم أن يستهين بأمر جماعته، فتراه لا يتابع جماعة المسجد، ولا يعرف أحوالهم، ولا يسألهم عن أسباب تغيبهم أو تأخرهم عن الصلاة، وهذا أمر خطير تعود سلبية نتائجه على الإمام بالدرجة الأولى وعلى المأموم وعلى الجماعة وعلى المجتمع المسلم كله، إذ التهاون في أمر الصلاة نذير شر يهدد استقرار الأمة ورخاءها.
ومن الخلل الملحوظ في مسؤولية الإمامة، التقصير في الحضور إلى المسجد واكتفاء الإمام بضغط الزر الأخضر من هاتفه الجوال إلى المؤذن ليؤم المصلين عنه! بل قد لا يفعل ذلك ويجعل المصلين ينتظرون حتى يطفح كيلهم فيقدموا أحدهم تحت وابل من عبارات السخط على ذلك الإمام الذي يأتي في الفرض التالي أو في اليوم الثاني بابتسامة عريضة وكأن شيئاً لم يكن! مصطحباً معه عذراً يستخف به عقول جماعته إن تعرض لاستجواب منهم بل ان بعضهم - هداه الله - يكون غيابه مطرداً في مواسم الصيد والأمطار والربيع! وفي تلك الأيام بالتحديد يكثر التسيب والإهمال فيها وعدم المبالاة والاكتراث للمسؤولية التي يحملها بعض الأئمة!! ثم نرى مثل ذلك الإمام لا يعرض له أي ظرف في آخر الشهر لاستلام ما لا يستحقه ولا يؤجر عليه من محاسب مديرية الأوقاف التي يتبع لها!!
فإذا كان العلماء قد منعوا الإمام من قيام العشر الأواخر من رمضان في اشرف بيت على حساب مساجدهم وجماعاتهم فكيف بمن يتسيب للقنص والنزهة البرية؟! وهذا النوع بحمد الله في قلة.
وإن من أهم الوسائل التي يجب أن نشير إليها في مسألة الإمامة هي مسألة (التأهيل) وهي مسألة يجدر الابتداء بها عند الحديث عن الإمامة، لأننا نلحظ أن كثيراً من الأئمة - وللأسف - لا يجد عائقاً كبيراً في تسجيل اسمه إماماً رسمياً في سجلات الأوقاف! فيكفيه أن يكون طالباً للشريعة وإن لم تتوفر فيه شروط الإمامة! أو ان يكون من (المؤلفة قلوبهم) لقرب عهده بالهداية فيولّى الإمامة دون النظر إلى أهليته لها!! وإذا نظرت إلى مثل هؤلاء وإذا حفظهم للقرآن قليل وفيه ركاكة ولحن، وقد وقع في سمعي وسمع غيري من هذا كثير، وكما هو معلوم أن من شروط الإمامة عدم اللحن وهذا كثير وملاحظ وليس فيه أي تجن أو تجوّز على الحقيقة والواقع!! وفي مقابل ذلك لا ننكر كثرة الأئمة المؤهلين وحاملي المسؤولية.
ولا ينبغي على الإمام أن يتساهل في أمر (جمع الصلوات) في أوقات المطر أو البرد، فلا يجمع لأدنى عارض منهما لأن في هذا خطراً يجب الانتباه له والتنبيه عليه وفي الجانب الآخر نجد من الأئمة من يتشدد في ذلك فلا يجمع الصلوات مع وجود المسوغ للجميع، ويعتبر ذلك استهانة بالدين واستغلالاً للرخص! وهذا أيضاً أمر لا يجب فيه السكوت والصمت.
ومن الأئمة - وخاصة الشباب منهم - من يجعل من حديث رسول الله - عليه السلام - مع معاذ في حثه على مراعاة المأمومين بتخفيف الصلاة وعدم إطالة المدة بين الاذانين - من يجعل من هذا الحديث شماعة يعلق بها ويبرر الخفة الزائدة في صلاته، وهذا النوع من الأئمة قليل ولله الحمد، ولكنه لا يمنع من الإشارة إليه.. وفي مقابل ذلك يؤخذ على الإمام التطويل الزائد في الصلاة، لئلا ينفّر المصلين ويفرق الجماعة، والوسط مرغوب في الأمور كلها.
ومن الأئمة من لا تُعرف أوقات إقامتهم للصلاة، ويجعل ذلك تحت تدبير الظروف لانقاذه من الحرج والمأزق إن عُرف بوقت محدد للإقامة ثم تأخر عنه!.. فتراه مرة يبكر وتارة يتأخر، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى ارباك الجماعة والشك في نظامية الإمام ومصداقية مواعيده.
وعلى الإمام أن ينتبه لمسألة في غاية الأهمية وهي (القدوة) فلا يستهين بها، لأن من العامة من إذا وثق بالإمام أخذ منه كل أفعاله، فيجب على الإمام أن يتحرى السنة في تأدية صلاته، في رفع اليدين في مواضعها واستواء الظهر عند الركوع، ووضعية اليدين حال القراءة وعند السجود وجلوس التشهد، ومراعاة جلسة التورك في التشهد الأخير.. وغير ذلك من الأمور التي ينبغي على الإمام أن يتحرى السنة فيها قدر المستطاع لأنه محل قدوة عند المأمومين وقد وقفت على بعض الأئمة الذين تتحدث جوالاتهم أثناء الصلاة! وعلى من لا أرى في صلاته عملاً بالسنة واضحاً!!
وإذ أذكر ما سبق لأنني (بتشديد النون) بدعوة مديريات الأوقاف وشؤون المساجد في كافة مدننا ومحافظاتنا إلى تحمل مسؤولياتها كاملة وعدم الاكتفاء بالتركيز على بعض النقاط وإهمال بعضها، لأنها أمام مسؤولية كبيرة أمام الله عما يصدر من منسوبيها، ولها وللقائمين عليها الأجر والمثوبة حال إخلاصهم وقيامهم بكامل مسؤولياتهم.
وأخيراً.. كل ذلك وغيره لم أذكره من الملاحظات التي أردت الاشارة إليها ليأخذ الأئمة والوعاظ حذرهم ويتجنبوا قدر استطاعتهم الوقوع في الزلل لأنهم مظنة الخير والصلاح والاستقامة، وسيفرح بما ذكرته من عرف مسؤولياته وأتمها، ومن يعمل بقول الفاروق: (رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي).
( * ) الزلفي |