Friday 12th March,200411488العددالجمعة 21 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

نبض المداد نبض المداد
عندما يفتي الإعلاميون!!
أحمد بن محمد الجردان

لدى بعض الزملاء الإعلاميين من غير ذوي التخصصات الشرعية، وخصوصاً الكتَّاب منهم، جرأة على الإفتاء وإصدار الأحكام الشرعية وتأصيل المسائل حسب رؤيتهم لا تأصيلاً شرعياً. فتجد أحدهم على سبيل المثال يحدد للقرَّاء في مقاله الضوابط الشرعية للِّحية من حيث حدودها وطولها، وربما أصدر رأيه وصاغه للقارئ على أنه حكمها الشرعي!!. وكذلك تجد أحدهم أيضاً يتحدث عن حجاب المرأة المسلمة، فيحدد ضوابطه ويفصل في ذلك تفصيلاً كثيراً، ومن ثَمَّ يصدر حكمه في هذه المسألة، وآخر يكتب ما يراه تأصيلاً للقراء عن مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه وأقواله، وكذلك يصدر مرئياته الشخصية ويصوغها للقارئ على أنها أحكام شرعية، وهكذا!!.
ومن المفارقات العجيبة أنه لو جاء متخصص في العلوم الشرعية والإفتاء وتحدث في مجال الهندسة أو الطب أو التقنية لكان أولئك الزملاء الإعلاميون في مقدمة مَن يرد عليه ويوجهه، وربما يوبخه توبيخاً صحفياً لاذعاً؛ لتجاوزه لمبدأ التخصص، وأن عليه أن يحترم تخصُّصات الآخرين من طب وهندسة وصناعة وفنون، وأن عليه أيضاً ألاَّ يتحدث في مجالسه وغيرها إلا فيما هو متخصص فيه!!. والحقيقة أن الجرأة على الفتوى عموماً هي جرأة خطيرة جداً، وتجاوز ذو عواقب وخيمة، كما أنه أيضاً تجاوز لمبدأ التخصص، ذلكم المبدأ الذي كلنا ينادي به ويحترمه ويؤكد عليه، غير أن الحديث عن الجرأة على الفتوى من قِبَل بعض الزملاء الإعلاميين، وخصوصاً الكتَّاب منهم، لا ريب أنه حديث ينطلق من أهمية ما يكتبونه وأثره على القارئ والمتلقي!!.
ويبرز ذلك الأثر وتلك الأهمية من أن القرَّاء لا ريب أنهم مختلفون في أفهامهم، ومتعددون في توجهاتهم، ومتباينون في ردود أفعالهم. وفي تلك الجرأة أيضاً محاذير كثيرة وكبيرة؛ منها ما ذكرتُ آنفاً، ومنها ما هو الأعظم والأهم على الإطلاق، وهو أن المفتي ما هو إلا بمثابة الموقع عن الله رب العالمين!!. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وهنا قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به، وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك).
وكان ابن سيرين -رحمه الله- إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغيَّر لونه وتبدل. وكذلك قال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولاً!!. وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتدافعون الفتيا لا كتماناً للعلم أو تهرباً من المسؤولية، بل إدراكاً منهم -رضي الله عنهم- لعظم شأنها، فها هو البراء -رضي الله عنه- يقول: (أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم من رجل إلا ويود أن أخاه كفاه). وفي رواية: (فيردها هذا على هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول).
وكان الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- يقول: (مَن أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب). وسُئل عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة. فغضب وقال: (ليس من العلم شيء خفيف). كما قال ابن القيم في مدارج السالكين: (وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن أُفتي بغير علم كان إثمه على مَن أفتاه). رواه أبو داود. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (فالواجب على مَن وجِّه إليه سؤال ألا يتكلم في الجواب عنه إلا عن علم، بحيث يكون عالماً بذلك، إما بنفسه إن كان أهلاً للبحث والنظر في الأدلة، وإما عن عالم يثق به؛ لأن هذا دين، والمفتي يخبر عن دين الله وعن حكم الله وشريعته، فيجب عليه أن يحتاط احتياطاً بالغاً).
النصوص في خطورة الإفتاء والقول على الله بغير علم كثيرة جداً، لكنني أوردتُ ما سبق من باب التنبيه على خطورة ذلك الأمر وعظمته!!. ما دام الأمر بهذه الخطورة جدير بالعموم، وحملة القلم خصوصاً، أن يعوا الأمانة، وأن يعملوا بما ينادون به من خلال مقالاتهم وعطاءاتهم الإعلامية من ضرورة احترام تخصصات الآخرين والحديث فيما هو من اختصاصهم!!.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved