قال ناقد تراثي قديم واصفاً شعراء العصر الذهبي (أبو تمام خطيب منبر والبحتري واصف جؤذر، والمتنبي قائد عسكري) ويشير في وصفه للمتنبي إلى براعة المتنبي في وصف المعركة وأحوالها وأبطالها، حيث كان الناطق الرسمي لحملات سيف الدولة الحمداني.
وقد لا يكون لهذا كبير علاقة بما أود الإشارة إليه في مقالي سوى عن علاقة المبدع أو المثقف بالعسكر عن (المثقف العسكري) بالتحديد، فأنا أود أن أتحدث عن المثقف كمشروع حضاري والتزام يستهلك العمر كله. ولا أدري على وجه الدقة عن الجذور التاريخية والاجتماعية التي ربطت بين المثقف والبوهيمية وعدم الالتزام مع غياب للتركيز والانضباط، وأن ما يقدمه من أعمال عبارة عن ثرثرة لا تخلو من الهرطقة والخروج عن السائد والمألوف، وتلك الصورة المنمطة التي نجدها في كثير من الخطابات الثقافية والأدبية من حولنا أيضا نلمح هذه الشخصية التي يحاولون أن تبدو هزلية في الكثير من الروايات والكتب والسياق الإعلامي في العصر الحديث. حيث المثقف المفلس المبعثر الذي يعاني من الفقر والبطالة، يقع دوماً صريع التناقضات بين قيمه ومبادئه وبين المجتمع المجحف وعدم قدرته على الوصول إلى النضج الفكري الذي يجعله يسيطر على مراحل حياته، عيناه حمراوان من السهر و........!!
وهيئته لا تسر العدو قبل الصديق.
هذه الصورة المزرية هي الإطار الذي يحلو للبعض أن يحصر بها قادة الرأي ومشعل الشعوب وضميرها الحي النابض، وبرأيي الخاص هذا النوع من المثقفين لا ينتج سوى المزيد من الضبابية والسوداوية والتقهقر، مع غياب لسمات الفعل الإيجابي المتفائل الذي يطمح لمنجز حضاري وروح وثَّابة خلاَّقة تطمح للسمو.
أعتقد شخصياً بأن المثقف هو مشروع عسكري، لا بد أن يكون بداخل المثقف تلك الشخصية العسكرية المنضبطة الملتزمة المعبأة بأحلام وطموحات مع وضوح في الخطط والأهداف، وقدرة على اختطاف طيور الإبداع النافرة الشاردة وتجييرها لتخدم فعلاً مجتمعياً سامياً ونبيلاً.
جميع المبدعين الذين تركوا بصمة تاريخية كانوا ينطلقون من جدول أعمال يلتزمون به بشكل صارم وعسكري، وذلك سبيلهم الوحيد ليصبحوا مؤثِّرين ومنتجين.
يقال إن (نجيب محفوظ) بإمكانك أن تضبط ساعتك على تحركاته ما بين مكتبه وقهوته، الكاتب المسرحي الإنجليزي الساخر (برنارد شو) كان يلزم نفسه بكتابة ثلاث صفحات يومياً، ومن ثم يعيد تقييمها لاحقاً عندما ينفصل عنها نفسياً، وقد لا يفي حجم المقالة للمزيد من الأمثلة لكن بالتأكيد المثقف العسكري هو وحده الذي يحمل ذلك الحس الملتزم النبيل والرغبة في الاقتحام والوصول والانتصار.
|