يستطيب البعض النيل من أعراض الناس بالغيبة، والنميمة، والشك وسوء الظن وتتبع العورات. وقد يبرر أفضل هؤلاء لأنفسهم عملهم ذلك بأنهم لا يريدون به إلا الإصلاح وفعل الخير.
والحقيقة أن الذين يزيّنون لأنفسهم ذلك (الفعل) هم أبعد الناس عن فهم السلوك السوي الذي دعا ديننا إلى التعامل به في مثل هذه الأحوال. أمَّا الذين يفعلون ذلك للاستمتاع بالخوض في أعراض الناس وأسرارهم؛ فهؤلاء من الذين يأتون بأقبح الأفعال وهم يعلمون إنهم لا يريدون من ورائها إصلاحاً.
حذَّر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات هذا النوع من الناس، وشبه النيل من الأعراض بأبشع الصور التي تعافها النفس وهو أكل لحم الأخ ميتاً في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} ؟! وقد اتبع الله تعالى السؤال الاستنكاري في هذه الآية بدعوة هؤلاء إلى (تقوى الله) وإلى (تذكر رحمته) بقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات 12) يدعوهم للتقوى بالامتناع عن الخوض في أعراض الناس، ويذكرهم بأن هذه الأمور بينه وبين عباده وأنه تواب رحيم.
ولم يحث ديننا على شيء ويشدد فيه بعد حسن الخلق، كما حثَّ وشدَّد في مسألة الستر على العباد وهو من خلق المسلم، ومن آداب المسلم ألاَّ يسترق السمع لسماع صوت المنكر ولا يستنشق لمعرفة رائحة الخمر، ولا يسأل الجيران عما يجري بدار مجاورة لهم، وذلك تحقيقاً لمثل سلوكية عليا أمر بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين قال (ولا تحسسوا ولاتجسسوا) وقال (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُب في أذنه الآنك يوم القيامة) (البخاري).
وتغيب عن كثير من الناس حكمة ديننا في النهي عن تتبع عورات الناس لأنها تشيع الفاحشة فالمستتر إذا انكشف جاهر بالمعصية وفسد لهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم وكدت أن تفسدهم) (أبو داوود وابن حبان)
لهذا أجمع علماء المسلمين كما يقول القرطبي على النهي عن الظن القبيح بمن ظاهره الخير واستتر ولم يجاهر بمعصية. وقد كثرت الأحاديث النبوية التي تحث على وجوب ستر المسلم.
ورد في حديث أبي الدرداء أن رجلا نال من رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: (من ردَّ عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار) وليس هناك أقوى وأشد من هذا الوعيد (من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته) (ابن ماجه).
وقصة أبوهيثم كاتب الصحابي عتبة بن عامر مع جيرانه الذين يشربون الخمر تحمل درساً نبوياً عظيماً. إذ أراد أبو هيثم أن يبلغ الشرطة لهم فنهاه الصحابي الجليل، وقال له عظهم وهدِّدهم. ولما لم ينتهوا أراد أبوهيثم إبلاغ الشرطة، فزجره الصحابي الجليل، وقال له: ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله يقول (من رأى عورة فسترها فكأنما استحيا موءودة في قبرها) (أبوداوود والنسائي). ويبلغ ديننا في حثه على الستر مداه في قصة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع الغامدية التي جاءت معترفة بالزنا ورسول الله يتيح لها الفرص واحدة بعد الأخرى لتتراجع عن اعترافها.
فهل هناك أعلم بحدود الله من رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين، ومع ذلك فإن هناك أناسا من المسلمين يصرون على تتبع عورات جيرانهم والتنصت على أقربائهم وأهاليهم وهتك ستر من ستر الله عليه من عباده وغيرهم من عامة الناس.
لقد أنزل الله آية لو وعاها المرجفون بالفاحشة بالتتبع والتلصص والاستراق والإشاعة لمادت بهم الأرض. يقول الله في كتابه المحكم متوعداً {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور 19).
ألا إن هذا الدين (ستر) لا (فضيحة)، و (رحمة) لا (قسوة)، و(فضيلة) لا (رذيلة).. وإن من الإسلام سلامة الناس من لسانك ويدك، وترك مالا يعنيك، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، ولا معنى لإيمانك وعباداتك في هذا الدين إلا أن يكون سلوكك ومعاملاتك مع عباد الله ترجمة أمينة لها.
|