رأينا في المقالات السابقة فشل تقرير ميتشل وخطة تنت والقمع الإسرائيلي في إنهاء الانتفاضة، وعدم النجاح في إعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات. ورغم أن الفلسطينيين كانوا وما زالوا يقبلون تلك الخطط ويسعون جهدهم ويحاولون تنفيذها إلا أن الكيان الصهيوني يسعى دائما الى إجهاض تلك الخطط وتفريغها من مضمونها والالتفاف عليها، فهم يعدون ويخلفون، ويسعون لقلب الحقائق ويكيلون الاتهام للفلسطينيين بأنهم هم الطرف الذي لم يف بالتزاماته.
تذكرني هذه التسمية (خارطة الطريق) وتسميات الخطط السابقة (تقرير متشل وخطة تنت) بالتسميات التي يطلقها الأمريكان على أعاصير الهيركان التي تجتاح جنوب وشرق الولايات المتحدة مروراً بالبحر الكاريبي، وما تخلفه من آثار تدميرية وخصوصا في المنشآت والمباني وسقوط بعض الضحايا في المناطق التي تمر عليها. كل عام يطلق الأمريكيون اسم شخص على الإعصار مثل إعصار أندرو وإعصار جورج، وغيرها من التسميات لكنها تظل أعاصير تدميرية وتعاود الظهور أكثر من مرة في السنة.
إن هذه التسميات للخطط والتقارير لم تغير من الواقع المأساوي للشعب الفلسطيني شيئا، ولا يمكن التنبؤ بنتائجها، كما لا يمكن التنبؤ بنتائج أعاصير الهيركان. من المؤكد أن نتائجها في أحسن الأحوال هي ليست في صالح الفلسطينيين. كان من المفترض في هذه الخطط والمشاريع أن يكون هناك نوع من الموازنة للوصول على الأقل الى أخف الضررين. ولكن السؤال: هل يسمح الكيان الصهيوني بأن يكون هناك خيار للفلسطينيين بين ضررين لكي يكون أحدهما أخف من الآخر؟ والجواب هو أن الحكومة الصهيونية لم تعط فرصة للاختيار رغم أن الخيارين ضاران. بل إنها تحرص دائما في اتباع سياسات وفرض سياسات على أرض الواقع تلغي كل الخيارات الداعية للسلام، وجعل البديل لكل ذلك هو جر الفلسطينيين إلى العنف والعنف المضاد.
قد لا يكون مصير خارطة الطريق بأحسن حالا مما سبق من الخطط رغم ما يبدو من توجه أمريكي لمحاولة إعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات. ولكن كيف السبيل للعودة الى مائدة المفاوضات؟ كيف هي حال الطرق التي ستؤدي الى العودة واستئناف المفاوضات؟ ما أصعب تلك الطرق، وما أشد وعورتها بالنسبة للفلسطينيين. جاءت خارطة الطريق بعد أن أريقت دماء الآلاف من الفلسطينيين، ودمرت الآلاف من المنازل وخربت البنى التحتية للفلسطينيين وأثخنت الجراح. جاءت هذه الخارطة بعد أن تعمقت الهوة بين الطرفين وفقد كل طرف الثقة في الطرف الآخر.
ما هي خارطة الطريق؟ وماذا تدعو إليه خارطة الطريق؟ وكيف جاءت؟ ومن أجل ماذا جاءت؟
لقد جاءت خارطة الطريق بعد خطتين سابقتين هما تقرير متشل وخطة تنت وكلاهما ذهب مع الريح. جاءت ولادة خارطة الطريق بعد مخاض عسير وبعد فحص وتمحيص. وبعد قراءة جيدة لموعد الولادة وتحديده بدقة.
لعب التمهيد للحرب على العراق دوراً في الإعلان عن فكرتها، وربما لم تكن أمريكا في بداية الأمر بذلك الحماس الكبير لها.. يبدو أن الفكرة أوروبية، ولكن شارك في إعدادها روسيا والمجموعة الأوروبية والأمم المتحدة، وبقيت بين أخذ وعطاء ونقاش. أعلنت ثم خبئت وأصبحت تستغل ورقة حسب الظروف وللضغوط لنيل بعض المكاسب.
طرحت هذه الخارطة على الفلسطينيين والإسرائيليين وسلمت للقيادتين من قبل مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط في بداية شهر مايو. ربما يعتقد الأمريكيون أن هذا هو أنسب وقت لطرح هذه الخريطة على الجانبين. لم تكن الولايات المتحدة تنتظر تعيين رئيس وزراء فلسطيني لطرحها، وإن كان ذلك شرطاً، لقد طرحتها بعد أن انتهت المرحلة الأولى من غزوها للعراق، وبعد التواجد في أفغانستان والاستمرار في محاربة الإرهاب، وبعد التهديد والضغوط على سوريا ولبنان وايران الذي لا يزال مستمراً.
إن المرحلة النهائية من الخطة براقة بالنسبة للفلسطينيين، وهي قيام دولة فلسطينية. ولكن الطريق الى تلك الدولة مليئة بالعراقيل والمطبات الإسرائيلية. هناك طرق عديدة على خارطة الطريق، ولكن ليس هناك عربات ممكن أن تحمل هذه الحلول لقيام تلك الدولة.
لم يوافق حتى الآن الكيان الصهيوني رسمياً على تلك الخريطة، وليس هناك ما يشير الى الموافقة دون تعديل جوهري عليها بحيث يصعب قبولها من الفلسطينيين. قبلها الفلسطينيون على ما هي عليه رغم قولهم :إن فيها جوانب تستحق أن يتم التحفظ عليها. الخريطة كما ترى اللجنة الرباعية ليست قابلة للتغيير رغم أن بعض التصريحات من الأمريكيين ومن خافير سولانا تقول بإمكانية المفاوضات على التغيير في بعض جوانبها.
لاشك أن الخريطة تركز على النواحي الأمنية الاسرائيلية أولا، وقبل كل شيء ولذلك فإن هذه الخارطة لم تختلف كثيرا عن خطة تنت في هذه الناحية. إن تحقيق الأمن للكيان الصهيوني وهو يحتل أراضي السلطة الفلسطينية مطلب صعب. وسيسعى الصهاينة الى نسف هذه الخطة بمجرد حدوث أي عملية فلسطينية أثناء محاولة تنفيذ الخطة، وهذا ما حدث. لقد دمرت البنية التحتية الأمنية للسلطة الفلسطينية سواء المخابرات أو قيادة الأمن الفلسطيني في كل بلدة وقرية ومدينة. كيف يمكن للفلسطينيين ضبط الأمن ومنع الاختراقات الأمنية للمجموعات الاستشهادية الفلسطينية. عجز الجيش الصهيوني بعدته وعتاده وقوته أن يمنع مثل تلك الهجمات فكيف بالفلسطينيين.
إن هذا الأمر هو محاولة للإيقاع بين الفلسطينيين، ولعل تعهد( أبومازن)حين كان رئيساً للوزراء بنزع السلاح غير القانوني يأتي في مرحلة لاحقة، وليس في أول المطاف، لأن الجميع يدركون أن ذلك لن يتحقق ويدرك أبومازن أن دون ذلك خرط القتاد. وهو يدرك تماما ماذا يعني نزع السلاح وبرغبة من العدو، ودون أن يلوح في الأفق بادرة حسن نية من الكيان الصهيوني.
إن الأولى هو أن ينسحب الجيش الصهيوني من أراضي السلطة الفلسطينية كاملة التي أعاد احتلالها بعد بدء الانتفاضة لكي يبدأ الفلسطينيون في استعادة حياتهم بالتدريج. ولكي يحسوا بالتغيير في حياتهم اليومية نحو الأفضل. ولكي يشعروا أن هناك رغبة من الكيان الصهيوني في التفاوض وإنهاء القمع واحترام حقوق الفلسطينيين. ومن جانب آخر فإن على الفصائل الفلسطينية أن تتيح فرجة للسلام وتجنب القيام بعمليات استشهادية في حال تراجع العدو عن أراضيهم، وأوقف عمليات الاغتيالات للقياديين.
إن خريطة الطريق لو قدر لها ونجحت فإنها ستمر بثلاث مراحل كل مرحلة تعتمد على التقدم في المرحلة السابقة لها. المرحلة الأولى تتضمن كافة أشكال العنف من قبل الفلسطينيين، وفي مقابل ذلك تقوم الحكومة الصهيونية بتنازلات تتعلق بالتخفيف من الإغلاق وتنازلات تتعلق بالمستوطنات. المرحلة الثانية تتضمن قيام دولة فلسطينية مؤقتة. أما المرحلة الثالثة فتتضمن محادثات مكثفة من أجل القدس واللاجئين والحدود النهائية.
هذه هي خارطة الطريق. ليس هناك أي نوع من الضمانات من قبل اللجنة الرباعية بنجاحها. لم يبد أي بارقة في الأفق توحي بأن الولايات المتحدة ستمارس أي نوع من الضغط على الكيان الصهيوني للقبول بالخارطة وعدم عرقلتها.
إن تنفيذ الخارطة في نظري يحتاج على الأقل إلى مراقبين لمراقبة الالتزام والتنفيذ والكيان الصهيوني، وأمريكا يرفضان وجود مراقبين. وقد رفضت ذلك مراراً وتكراراً حيث كان الفلسطينيون يطلبون وجود مراقبين لحمايتهم من العدوان الاسرائيلي المستمر عليهم، والتأكد من هو الجانب الذي يخرق الاتفاقات. إن رفض الكيان الصهيوني لوجود المراقبين يعني رغبته بل تصميمه على اطلاق يده في قتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم واغتيال قياداتهم بعيداً عن أعين المراقبة العالمية.
لقد استخدمت أمريكا قوتها العسكرية في تطبيق قرارات الأمم المتحدة ضد العراق، فهل يمكن لها أن تستخدم نفوذها وضغطها الدبلوماسي على اسرائيل لتنفذ خارطة الطريق.
لقد استقبل الكيان الصهيوني هذه الخطة بقتل العشرات من الفلسطينيين وجرح العشرات وهدم العشرات من مساكن الفلسطينيين. إن هذا نذير شؤم. أعتقد أن الأمر قد انتهى بالقول :إن الخارطة كانت محاولة جادة لإحلال السلام، إلا أن الطرفين لم يحترما هذه الخطة ولم يعملا بحرص على تنفيذها. سيكون اللوم على الفلسطينيين حقا أم باطلا، ولذلك فإن على الفلسطينيين أن يتنبهوا الى هذا الأمر حتى لا يتحملوا تبعية إفشالها أمام الرأي العام العالمي. لابد للفلسطينيين أن يفكروا في الرأي العام العالمي، ولا يقللوا من حجمه خاصة في غياب السند العربي القوي في الظروف الراهنة. لابد أن يتوقعوا ضغوطاً هائلة وهو ما يحدث الآن، ولابد أن يكونوا على قدر المسؤولية في هذه المرحلة الصعبة.
|