كان الحجاج، رغم قوته وإمارته العريضة وتاريخه الحافل، يخشى رجالا يعرف وزنهم وبأسهم وقدراتهم مثل ابن الأشعث وأضرابه من الخوارج، وكانوا لا يقلون عنه قدرة قتالية، إلى جانب أنه كان فيهم الخطباء الفصحاء والشعراء مثل قطري ابن الفجاءة، وكذلك كان يخشى المهلّب بن أبي صفرة وابنه البطل الهمام اليزيد، ويروي التاريخ أن الحجاج كان يركن إلى بعض المشعوذين الذين يتحدثون عن متغيرات الأيام، وكانوا يشيرون من بعيد إلى الخطر المقبل، الذي يقتلع الحجاج من سلطته وإمارته.!
وكان الحجاج يتوجس خيفة من اليزيد بن المهلب الذي يتوقع أن يخلفه، وقد شاهدت خلال عرض مسلسل - الحجاج - في قناة mbc. كيف فعل الحجاج باليزيد بن المهلب حين قدم عليه جريحا من الحروب، فقد زج به في السجن، وكانت هند بنت المهلب زوجة الحجاج، ومع ذلك لم يبال الحجاج بها، وانتهت المأساة بكيد النساء الذي أدى إلى فك أسر اليزيد، وهروبه مع سجانه وامرأة كانت في بيت الحجاج عاملة أغرت السجان بالزواج منها إن أطلق سراح اليزيد بن المهلب. وكان سجن الحجاج لليزيد ظلما وكيدا، خشية أن يوليه الخليفة مكانه حاكما على العراق.. وهكذا المراكز الكبيرة، يعيش أصحابها في قلق متصل وخوف من مجريات الجديدين.!
وكان يسع الحجاج أن يزج بالتابعي الجليل سعيد بن جبير في السجن بدل أن يقتله وقد زال الخطر، رغم أن الحجاج كان يعلم بوجود ابن جبير في أطراف مكة، ولكنه لم يطلب إلى أميرها أن يبعث به إليه. ويقول أمير مكة يومئذ أن عبدالملك طلب إليه إرسال ابن جبير إلى الحجاج.. وعندي أن رجل مكة أراد أن يتقرب إلى الخليفة وإلى الحجاج فبعث بالهارب إلى حتفه، ليبرئ ذمته، حتى لا يقال إن في الرقعة التي يحكمها يوجد عدو للحكم.. وكذلك كان في المقدور أن يبقى سيد قطب حيا وتحدد إقامته، والتاريخ الحاضر لم يدن سيد قطب بأكثر من أنه من الإخوان المسلمين، وذلك بعد مسرحية المنشية في الإسكندرية.. وهكذا التاريخ حافل بالمآسي، حيث أتيح لنا أن نقرأ لرجل كان له شأن أدبي ووزارة في دولة الأندلس العربية الإسلامية، هو لسان الدين ابن الخطيب، كان يردد:
وكنا عظاما فصرنا عظاما
وكنا نَقُوت فها نحن قوت |
وحين مات ودفن في مراكش، نبش قبره وأخرج منه وأجري عليه عقاب من جديد، وأحرقت مكتبته، وهلم جرا.! أقول هكذا طبع الحياة ومعاقبة أناس شجعان لهم تاريخ يعتز به، لكن الدسائس والغدر يقلبان الموازين.!
وما أداه الحجاج من إصلاحات إدارية، وسك نقود، والعناية بالزراعة والتنظيم الإداري، هو دور الفاتحين والمنتصرين الذين يبنون ويصلحون، لأن مراكزهم القيادية تفرض عليهم أن ينهضوا بالبناء والإصلاح والتنظيم والارتقاء بالحياة العامة، وإلا فإن تخليهم عن هذه الشؤون يحسب عليهم تقصيرا ونقصا، والتاريخ لا يرحم كما يقال.!
نقرأ في ص (21) من كتاب الأستاذ هزاع الشمري، أن الحجاج (أعاد بناء الكعبة على ما كنت عليه قبل بناء ابن الزبير (.. ونحن نعلم أن بناء ابن الزبير كان على أساس بناء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأن قريشا لما جددت بناء الكعبة لم يسعفها مالها الحلال لتتم البناء على ما كانت عليه، فأنجزته على الحال الحاضرة، والجزء الباقي بقي وهو ما يسمى بحجر إسماعيل.. والسؤال: لماذا نقض الحجاج بناء ابن الزبير؟ أهو نكاية، حتى يرضي الخليفة فلا يبقى بناء ابن الزبير قائما، وهل بيت الله عرضة للمزايدة بين المسلمين أم أن العمل لله!؟ حال لم أجد لها تفسيرا سوى تصرف حماقات وكيد وحرب بلا محارب، وليقال: إن البيت الحرام عليه لمسات وكسوة عبدالملك، وليس ابن الزبير الذي أطيح به وذهب، لعلها حال من المراءاة، وهذا عمل حجاجي في حرم الله الآمن، ليرضي غروره وقد انتصر، ويرضي كذلك الخليفة في الشام.. ولست أدري، هل رضي عبدالملك بمثل هذا التصرف، وقد رأينا آنفا أنه لم يسمح للحجاج باستعمال سلاح المنجنيق في البلد الآمن!؟
لقد واجه ابن جلا ثورة ابن الجارود وثورة الزنج، والعراق بركان ثورات، وشعر الحروب فيه على مستواها، وكذلك أدبها، غير أن اليد القوية تكون لها السيطرة مهما يطل الصراع وتتجدد الأطماع والفتن.!
يقول الأستاذ هزاع في ص 28 وكان من أبرز قواد الأمويين في مقارعة الخوارج ومن أصحاب الفصل في كسر شوكتهم المهلب بن أبي صفرة الأزدي.. وقد رأينا كيف عامل الحجاج ابنه اليزيد بعد وفاة والده، وأهانه. كان ذلك جزاء التضحيات والإحسان والإخلاص، وما عمله الحجاج غدر واستبداد، وكأني بالحجاج يتمثل بما عومل به - سنمّار - حين بنى قصر النعمان بن المنذر، فخشي أن يبني مثله لأحد من منافسيه وأعدائه، فأمر بأن يرمى من سطح القصر ليموت، فضرب بهذا العمل المشين المثل.!
لقد عزل الحجاج الفضل بن المُهلَّب، لإسرافه في الأموال، كما قال هزاع في ص 35، وتصرف الحجاج هذا يدل على أنه ليس سياسيا ولا من دهاة العرب الذين يسوسون الرجال ولا يستعجلون إصدار الأحكام، وإن كان قائدا، غير أن القُواد العسكريين لا يفقهون إلا لغة واحدة، إصدار الأوامر والعقاب والصرامة.!
هناك عدم رضا ووئام بين سليمان بن عبدالملك والحجاج، ولذلك ظل الحجاج يدعو ربه أن يموت قبل عبدالملك بن مروان، لأنه لا يستطيع التعامل مع سليمان، وكلما علم بمرض الخليفة يجد في الدعاء ألا يموت قبله.. ولعلها إرادة الله أن يموت الحجاج قبل عبدالملك.. ثم إن الحجاج لو كان عادلا وصلته بخالقه مرضية، فإنه لا يخشى التغيير في الحكام، وفي أسوأ الظروف فإنه يسعه التخلي عن القيادة، والحكم إذا مات الخليفة.. غير أن الحرص على المنصب والحياة، صاحبهما لا يريد أن يهتز مركزه، وكذلك فإنه يخشى أن يذل ويهان.. وهذه الخلخلة لا تكون إلا عند المتشبثين بالمركز والجاه، غير أن المتوكلين لا يقلقهم التغيير.!
ونقرأ في ص45 من كتاب الأستاذ هزاع، رسالة من الحجاج إلى الخليفة، جاء فيها: (فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سرفي في الدماء وتبذيري في الأموال، لعمري ما بالغت في عقوبتي أهل المعصية ما هم أهله، وما قضيت حق أهل الطاعة بما استحقوه، ووالله ما قتلت إلا فيك ولا أعطيت إلا لك).. لو قبلنا جملة: ولا أعطيت إلا لك (فإن جملة ما قتلت إلا فيك)، يعني عندي أنه لم يقاتل في سبيل الله.. أما الصفة التي ألبسها الكاتب للحجاج وهي (العدل) فإنه أمر مختلف، لأن الحجاج جبار ومبالغ في ذلك، ودليلي ابن المهلب، الذي أذله الحجاج وسجنه ظلما، وتاريخ الحجاج مليء بالجور والتجاوزات.. والملاحظ أن الكاتب يصدر أحكاما جزافية من تلقاء نفسه، لتبرئة ساحة الحجاج، وهذا المسلك ليس من أمانة التاريخ، إلا إذا أكده بأدلة قاطعة، وهذا لا يوجد إلا نادرا في التاريخ؟!
إنني أعترف أن الحجاج بن يوسف كان سيفا بتارا بأيدي بني أمية، بما في ذلك استبداده وظلمه من أجل توطيد الملك العضوض.. وأؤكد أن فصاحة مناوئيه تحمله على العفو إذا تبع ذلك اعتذار منهم وتراجع، وهذه ليست سمة عامة، ولكنها شذرات في مواقفه.. ونقرأ في ص 49 من كتاب الأستاذ الشمري أنه جيء إلى الحجاج بزوجة ابن الأشعث، (فأمر الحجاج الحرس أن يقول لها: يا عدوة الله أين مال الله الذي جعلته تحت ذيلك) فحرّف الحرس كلمة ذيلك إلى كلمة أخرى قبيحة، فقال له الحجاج: كذبت ما هكذا قلت، وخلى عنها).. إن هذه الحادثة وأمثالها كثير في التاريخ وفي حياة الناس في كل مكان وزمان، وهي تشبه الأحاديث الخرافية في سوء أفعال نماذج من البطانة، وما أكثرها قديما وحديثا.. ورأيت أن الحجاج يعجب بالكلمة الفصيحة واللسان الذرب، إذا كان الذنب دون الخيانة والغدر فيعفو لأنه يستمتع بالكلمة البليغة وفصاحة لسان قائلها.!
ويسوق كاتبنا حكاية، وهو يسميها نادرة، وما أكثر النوادر المصطنعة التي حفلت بها كتب الأدب والتاريخ من هذه الأنماط الخيالية، التي يستمتع بها حائكوها ويستعذبون سردها وإشاعتها فينقلها الركبان، ذكر الكاتب في ص47 أن الحجاج مر بمزارع يسقي ضيعته، فسأله عن الحجاج، فقال له أنماطا من الشتم والكره، ونسب إليه المساوئ، وحين أعلم الحجاج الرجل بنفسه، ارتبك وعلم أنه مقتول، فقال: أنا أبو ثور المجنون وهذا يوم صرعي، وأزبد وأرغى وهاج، فضحك الحجاج وعفا عنه..
|