في ظني -والله أعلم- أن كلمة سعودة بدأت تشق طريقها لتصبح بلا معنى مثلها مثل كلمة غلاء المهور. إذا أراد المرء أن يتدرب على موضوع صحفي يتناول هذه الكلمة وإذا لم يجد الكاتب ما يقوله يسن قلمه بهذه الكلمة. فقد بدأ يتضح لي أن أكثر من يتكلمون عنها لا يؤمنون بأي دلالة يمكن أن تنطوي عليها.
عرفت هذه الكلمة منذ أكثر عشرين سنة عندما كانت الوظائف أكثر من الموظفين وعندما كانت الدولة تتحبب الناس للالتحاق بوظائفها، كما نجول في المناطق نحاول إقناع الشباب بالعمل معنا، زيادة في الراتب ووعد بالتدريب وربما بالابتعاث ومغريات أخرى كثيرة. كان مفهومنا للسعودة ليس توظيف السعوديين وتخليصهم من البطالة، كان الهدف نقل التكنولوجيا إلى المملكة لم نكن نبحث عن سعوديين للوظائف الدنيا، كان هناك مفهوم يجول بيننا وهو أن تترك بعض الوظائف لغير السعوديين، فالوظائف التي لها عمر معين (الوظائف الجسدية) تترك لغير السعوديين، وهذا يعود إلى أن شاغلي هذه الوظائف عندما يبلغون عمراً معيناً سوف يتوقفون عن العمل وفي الوقت نفسه لا يمكن نقلهم إلى وظائف جديدة بسبب عدم كفاءتهم، لذا تشغل هذه الوظائف بأجنبي حتى إذا بلغ السن التي يعجز فيها عن العمل لا يبتشل فيه المجتمع السعودي، يسفر ويجاب غيره.
فالسعودة حينذاك كانت سعودة عقل العمل ورأسه، سعودة التفكير، فالتكنولوجيا لا ينقلها العمال وأصحاب العمل اليدوي ولكن المديرون والقيادات، مع الأسف لم تتحقق لا هذي ولا تلك، ما زالت الوظائف الدنيا مشغولة بغير السعوديين وما زال عقل العمل في السعودية بعيداً عن أهله، صعب الخوض في الأسباب لأننا في السنوات الماضية تركنا التفكير الواقعي ورحنا نخوض في أمور لا علاقة لها بالعصر الحديث، لم نصنع مقياساً حديثاً للإنسان السعودي، فالنجاح والانضباط والولاء للوظيفة لم تدخل بعد كجزء من ثقافة الناس، فالوظيفة ما زالت مصدراً للعيش فقط والارتباط بها لا يتعدى ساعات العمل، حتى أضحى الإنسان السعودي لا يقدم في عمله إلا الحد الأدنى. لا أعرف ما حل بمشروع الأحلام (الجبيل وينبع) والله لو نعيد قراءة التصريحات التي رافقته والأماني التي كانت تحيط به والبلايين التي صرفت عليه لظن المرء أن المملكة تحولت إلى دولة صناعية كبرى تنافس اليابان، لا أعتقد أن السعودة ستستمر بتلك الطريقة، أن يفرض على التجار وأصحاب المنشآت نوعية موظفيهم، فالسعودة أسلوب وثقافة وطريقة تفكير، إعادة بناء الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العمل وإلى حقوقهم وإلى الواجبات وإلى علاقتهم بالدولة لينضج الإنسان ويصبح قادراً على المنافسة في الداخل وفي الخارج. المقياس الحقيقي للسعودة لا يأتي بفرض السعودي على الوظائف وإنما بجعله مطلوباً في سوق العمل في أي مكان في العالم، لاحظوا الآن أن السعودي لا يفكر أن يبحث عن عمل خارج المملكة، لأنه لا يشعر أنه منافس للآخرين إلا بقوة الدولة، أي أنه لا يملك مواهب سوى أنه مواطن وله الحق في الوظيفة وعلى الدولة أن تمنحها له، فالسعودي الذي لا يستطيع أن ينافس الأجنبي في بلاد الأجنبي لا يمكن أن ينافس الأجنبي في بلاده، لا أقول أن يذهب للهند وينافس الهنود ولكن يفترض أن يكون منافساً لمواطني العالم الثالث في أوروبا وأمريكا، إذا لم يجد وظيفة في بلاده يذهب كما كان يفعل أجداده، ولا أعني هنا أن يترك الشباب وطنهم ويهاجرون ولكن هذا يعني تطوير قيم العمل في داخل الإنسان السعودي، تطوير قدرته على المنافسة وعلى الشعور بأنه مطلوب في أي مكان، فإذا نافس في لندن وباريس سوف ينافس في الرياض وجدة وجيزان.
فاكس: 4702164
|