يحدثني أخي الكريم الأستاذ الباحث عبد الله بن عبد العزيز الهدلق بموقف لطيف، بل عظيم لعلاَّمة الجزيرة العربية الراحل الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - وهو أنه بحضوره المجالس العلمية للشيخ الجاسر يطرح بعض الحضور رأياً أو قولاً أو مسألة علمية وتاريخية من الممكن أن يكون الشيخ لا يعرفها أو يجهل بعض تفاصيلها، فما يكون من الشيخ إلا أن يتوجَّه للمتحدث بالسؤال عن هذه المعلومة ومصدرها ويطلب تسجيلها في ورقة لكي يبحث فيها، ولا يمنع الشيخ من السؤال شهرته العلمية، ولا أن المتحدث يصغره سناً، بل تجد الشيخ وبتواضع العلماء يلقن الآخرين درساً علمياً وعملياً حينما يتكبَّرون عن المعلومة بحجة أن المتحدث صغير في السن أو أن مكانته العلمية لا تسمح له بسؤال الآخرين.
وهذا الدرس الذي يوجه الشيخ حمد للآخرين نجده عن آخرين غيره ممن زاد علمه وتواضعه وآمن بصحة المقولة التي تقول (قد تجد في الأنهار ما لا تجد في البحار) ولا يخلو كل شخص من فائدة، ولعل في هذا درس لنا جميعاًَ جيل الشباب أن نسير على هذا الخط العلمي والتربوي الكبير.
ومن لطيف ما أتذكر لشيخنا المؤرخ الأستاذ عبد الرحمن بن منصور أبا حسين صاحب كتابي (الحركة العلمية في أشيقر) وكتاب (تاريخ أشيقر) أنه في مرحلة تأليفه لكتاب الحركة العلمية في أشيقر، بل في آخر الأيام من تأليف هذا الكتاب وحينما كنا نطالع كتاباً وجد فيه نصاً يخدم كتابه فاستعار الكتاب ثم نقل النص وأعاد الكتاب شاكراً لمن دلَّه على هذا النص، مع أنه بإمكانه أن ينقل عن الكتاب دون الرجوع إلى الآخرين أو يشكرهم لأن الكتاب متوفِّر في المكتبات لكن أدبه العلمي جعله يشكر من دلَّه على هذا النص والكتاب، وهذا هو خلق طالب العلم والباحث عن المعرفة والمعلومة، لا ينقصه أن يقول دلَّني فلان على هذه المعلومة أو الفائدة، بل يزيده ذلك علماً وكمالاً ويجعل الآخرين أحرص على التعاون معه.
ومن تأمل في تراثنا العربي وبخاصة أطروحات علماء الحديث يجد أنهم أولوا هذا الموضوع العناية التي يستحقها فتجد أن هناك مبحثاً في كتب مصطلح الحديث بعنوان (رواية الأكابر عن الأصاغر)، وهم يقصدون بالأكابر سناً أو علماً وفضلاً، والأصاغر عكس ذلك، وقيَّدوا هذه الروايات في كتبهم وحفظوها للأجيال المتعاقبة في كتب مستقلة حتى إن بعض هذه الكتب طبعت بالعنوان نفسه (رواية الأكابر عن الأصاغر).
فليقتدِ المتأخر بالمتقدِّم، وليسرْ الخلف على نهج السلف العلمي.
|