Sunday 7th March,200411483العددالأحد 16 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
العلم وشجاعة الرأي
عبدالرحمن صالح العشماوي

إن تلقين العلم للأجيال دون تدريبٍ لهم على تطبيقه في الحياة لا ينفع الأمَّة نفعاً كبيراً؛ لأن تحويل (المعلومة) التي نتلقَّاها إلى واقعٍ نعيشه مَطْلبٌ شرعي وحضاري، بل إن المعلومة تظلُّ عديمة الفائدة إذا بقيت في ذاكرة الإنسان يقولها متى دَعَت الحاجة إليها، ولم تُصبح جزءاً من حياته وسلوكه.
لم يكن عَبَثاً ما نقلَتْهُ لنا سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام من مجالس التدريب على العمل، فجميع مجالسهم كانتْ ميادينَ تدريبٍ عملي وتزكيةٍ روحية، تُعقد فيها دورات تدريبية متطوِّرة تحت شعار (تَعَالَ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً)، وهو شعار عملي تدريبي عظيم، فقولهم: تعال بنا نؤمن، يُؤكِّد ما ذهبنا إليه، فهي جلسات تدريبية لتطبيق العلم، وإعطاء النفس دَفعةً قويةً للعمل، ولو كانت المسألةُ مقصورةً على المذاكرة العلمية المجرَّدة لقالوا: تعال بنا نتناقش ساعةً، أو نتذاكر ساعةً، ولكنَّ الأمر يتجاوز ذلك إلى ما هو أهمُّ، ألا وهو رفع درجة الإيمان بالله في القلوب ليتسنَّى لصاحبه التطبيق العملي لما يعلمه.
ولذلك كانت شجاعة الرأي من أهم الصِّفات التي تميَّز بها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأجيال التي نَشَأَتْ في كَنَفِهم، وحَظِيَت بتربيتهم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يُشجِّعهم على ذلك، فلا قداسةَ لرأيٍ أو قولٍ لأحدٍ من البشر ما عدا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لأنه كان لا ينطق عن الهوى، وكان يستقبل الوحي من السماء ويُبلِّغه للناس.
إنَّ قراءتنا لسيرة أولئك الرجال تُؤكِّد لنا حرصهم جميعاً على تعليم أولادهم العلم النافع، وعلى تدريبهم على التطبيق والعمل، والشجاعة في الإدلاء بالرأي دون خوفٍ من الخطأ؛ لأن البشر جميعاً مُعرَّضون للأخطاء.
ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حريص على تربية المسلمين على شجاعة الرأي شجاعةً قائمةً على علمٍ ومعرفةٍ وبصيرةٍ؛ فقد أتاح لهم هذا المجال بصورة رائعة.
حينما نزل دون الماء في بدر أشار عليه الحُباب بن المنذر بالتحوُّل إلى ما بعد الماء، لكنَّ الحُباب لم يطرح رأيه إلا بعد أنْ تأكَّد أن هذا المنزل الذي نزل فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس مرتبطاً بوحي من الله وتوجيهٍ منه سبحانه لنبيِّه؛ لأنه لو كان كذلك لما عاد هنالك مكان للرأي البَشَرِيِّ. وعندما تأكَّد للحُباب أنَّ هذا الأمر مفتوحٌ للاجتهاد والرأي الأصوب أشار على الرسول -عليه الصلاة والسلام- برأيه الذي ينسجم مع الحرب والمكيدة، فاستجاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرأي الحَصِيف، وكان رأيَ خيرٍ على المسلمين.
من هنا كان لزاماً علينا أن نربِّي أنفسنا وأولادنا على هذه الشجاعة المحمودة في طَرْح الرأي، والاعتراض الواعِي، والمناقشة الهادفة، ولكنَّ ذلك كلَّه مشروطٌ بالحكمة والعلم والمعرفة؛ لأنَّ طَرْح الآراء دون دراية ومعرفة يُصبح كالتَّراشُق بالحجارة يُدْمِي ولا يُفِيدُ.
إنَّ التطبيق الواعي للعلم والمعرفة يمنحنا قوَّةً وقدرةً فائقةً على إدارة الحياة إدارةً صحيحةً، ويجعلنا أصحابَ شجاعةٍ أدبيةٍ في طَرْح آرائنا دون خوفٍ من مُعارَضة مُعارِضٍ، أو نقدِ ناقدٍ، فليست المعارضة جُرْماً، وليس النقد عملاً مخيفاً يجب علينا أن نتحاشاه.
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُعلِّم أصحابه معنى الصلاة وأحكامها، ويُطبِّق ما يُعلِّمهم في مسجده حين يُصلِّي بهم، وكان يُعلِّمهم الصبر، ويُطبِّق ذلك معهم في ميادين الجهاد، ويُعلِّمهم الصدقة، ويُطبِّقها معهم في مسجده كلَّ يوم.
ويقول له الشاب الجلد: إني أستطيع أن أعمل كلَّ ما يُوجِبُه الإسلام من الفرائض، وأجتنب كلَّ ما ينهى عنه من النواهي إلا الزِّنا. ويستقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاستثناء الذي أغضب الصحابة الحاضرين بصَدْرِه الرَّحْب وحِلمه وسعادته بالتوجيه، ويُقرِّب إليه الفتى، ويسأله أسئلةً لها علاقة بمحارمه، وتكون النتيجة اقتناع ذلك الشاب ووعده القاطع بعدم الوقوع فيما طلب الاستثناء فيه.
إنَّ موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا يضع أُسُساً متعدِّدةً للتربية الإسلامية الصحيحة؛ ففيه تشجيعٌ على الصراحة؛ حتى لا تنطوي النفوس على الشرِّ، وفيه توجيهٌ إلى ضرورة قُدْرة المربِّي والموجِّه ووليِّ الأمر على الاستيعاب واستقطاب الناس بانشراح الصدر والتوجيه والنُّصح قبل التأنيب والعقاب بعد استنفاد الجهود الأخرى.
رأيٌ يُحْتَرَمُ في مجلس محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وشجاعة أدبيَّة تَبْعَثُ على الغِبطة والإعجاب في سيرته وسيرة أصحابه الكرام.
إننا بحاجةٍ ماسَّةٍ في زماننا هذا إلى ترسيخ هذه القيم العظيمة التي تبني الشخصيَّة بناءً قوياً.
إشارة :


قُرْآنُنَا يَسْمُو بِنَا
أَنْ نَسْتَكِينَ وَنَرْقُدَا
رَفَعَ الْغِشَاوَةَ فَانْتَهَى
لَيْلُ الْجُمُودِ كَمَا بَدَا


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved