عندما كنت في العاصمة الرياض، في شهر شوال الفارط، سعدت كثيراً بزيارة سنوية (ثانية)، لمكتبة الملك فهد الوطنية، وما كان ذلك ليتم لي، في المرة الأولى أو الثانية، لولا الأديب والصديق الاستاذ (محمد بن عبد الرزاق القشعمي)، رئيس الشئون الثقافية في المكتبة. فهذا الأديب (القشعمي)، بما جُبل عليه من لطف ودماثة خلق وإخلاص لواجبه الوظيفي والثقافي، استطاع أن يعيدني إلى أروقة هذه المكتبة، التي هي بحق صرح ثقافي وطني عظيم.
لماذا أتكلم على (السيرة الذاتية، في حياة المجتمع السعودي)..؟
لقد شدني إلى هذا المنحى، عملان جليلان في هذا المقام. أولهما: ذلكم الكتاب القيم، الذي أنجزه الصديق الأديب الباحث الدكتور (عبد الله بن عبدالرحمن الحيدري)، الذي نال عليه رسالة الماجستير، ثم درجة الدكتوراه فيما بعد، من جامعة الإمام، وسماه:( السيرة الذاتية في الأدب السعودي).. والطبعة التي قرأتها مؤخراً، هي الطبعة الثانية من هذا الكتاب.
اما العمل الثاني، فهو الذي ينهض به الاستاذ القدير،(محمد بن عبد الرزاق القشعمي) انطلاقاً من مكتبة الملك فهد الوطنية، القائم على التسجيل والتوثيق.. (تاريخي أدبي اجتماعي ثقافي).. تحت عنوان (التاريخ الشفهي للمملكة).
لقد خرجت من مكتبة الملك فهد الوطنية، ومن صفحات كتاب الدكتور (الحيدري)، بانطباع أكثر من جديد، كون بعض المؤسسات الثقافية، وبعض الباحثين الجادين في بلدي الحبيب، يُعنى بما ظل حتى وقت قريب، من المهملات أو المتروكات، وهو ما يتعلق بفن السيرة الذاتية، ليس لكونه تعبيراً عن ذات مبدعة متفردة لكاتب أو أديب فقط، ولكن لكونه صورة من صور الذات الإنسانية والاجتماعية والثقافية للمجتمع السعودي.
شعرت وأنا أتحدثُ للأستاذ (القشعمي) ثلاث ساعات متصلة، أني أقلب أوراقاً مطوية أو منسية في حياتي، لم أجرؤ ذات يوم، على فتح شيء منها، حتى لو لمجرد تذكر حادثة ما.. كيف يصبح مثل هذا البوح الشخصي، منتجاً ثقافياً، ومخزوناً وطنياً يعتد به، فإن هذا هو الإنجاز الجديد الذي يبني في تاريخ هذه البلاد، لأن البحث في تاريخ الأشخاص، هو في حد ذاته، إعادة لصياغة تاريخ الأمة، سواء كان هؤلاء الأشخاص، أدباءً أو شعراءً أو قادةً أو أفراداً عاديين.. إن هذا الجهد الذي ينهض به (أبو يعرب)، من خلال موقعه في مكتبة الملك فهد الوطنية، هو (السيرة الذاتية) لكامل الوطن والأمة، بكل ما تعنيه من تسجيل أمين لتراثها، وثقافتها، وأدبها، وتاريخها، وآلامها، وآمالها، وأمانيها كذلك.
يأتي في الجانب الآخر من هذه الصورة التوثيقية المهمة، في التاريخ الأدبي والإنساني لهذه البلاد، العمل الذي قدمه الدكتور (الحيدري)، فكتابه آنف الذكر، يمثل ريادة يعتد بها، وقد وجدت أن موسوعة (الأدب العربي السعودي الحديث)، في مجلدها السادس، الذي أفردته للسيرة الذاتية، قد اعتمدت في جوانب من التقديم، على بعض النتائج التي وصل إليها (الحيدري) في دراسته، بل أثنت على الدراسة وقالت:( أكاديمية وحيدة في فن السيرة في أدبنا الوطني) مج 6 ص 13.
والطبعة الثانية من كتاب الصديق (الحيدري) الذي أتحدث عنه، هي التي سرقت مني سويعات السحر على مدى عدة ليال من شهر ذي القعدة الفارط، فهي تقع في أكثر من (800) صفحة، وقد قدم لها الشيخ (حمد الجاسر) رحمه الله في (24) صفحة، وقدم المؤلف للطبعتين الأولى والثانية، ثم مهد للطبعة الثانية بما يجعل قارئه في جو التجربة البحثية، التي عاشها على مدى عدة سنوات، وفي قمة النتائج التي وصل إليها في النهاية.
لست هنا بصدد تقديم هذا الكتاب القيم، ولا حتى عرضه او استعراضه، فهو يحتاج الى وقفات كثيرة.. اردت فقط، أن اظفر بواحدة منها في عجالة هذه المقالة، ف(السّفر الحيدري) الكبير، يقوم على أربعة فصول كبيرة، تأتي بعد تفسيره العلمي الدقيق للسيرة الذاتية، وعرضه الموجز للأعمال موضوع الدراسة. ففي الفصل الأول، يتناول نشأة وتطور السيرة الذاتية في أدبنا السعودي.. بداياتها ومراحلها وفنياتها. وفي الفصل الثاني، تأتي موضوعات السيرة الذاتية.. تاريخية - سياسية - اجتماعية - فكرية. في الفصل الثالث، نقرأ الخصائص الفنية.. شخصية - قصصية - اعتدالية زمنية مكانية - اسلوبية. أما الفصل الرابع والاخير، فهو يعقد موازنة بين كتاب السيرة الذاتية في المملكة.. في المضمون .. في الشكل، ويختم البحث بفهارس عامة.
إن اهمية التوثيق (السّيري - البحثي) الذي اخذت به مكتبة الملك فهد الوطنية مشافهة، ونهض به الدكتور (الحيدري) كتابة، لا تكمن فقط في كونها رائدة او جديدة او متفردة، فهذه كلها فيها، ولكن ايضاً، لانها جهود تكشف عن جحود، ظللنا نمارسه في حق منتجنا الثقافي بعمومه، إبداعياً كان أو تاريخياً واجتماعياً، فقد أبرز (الحيدري) ما هو جدير بالاحتفاء والدراسة في فن السيرة الذاتية، على ما كان يظن سابقاً، ان لا شيء يستحق الالتفات اليه في هذا المقام وسوف يصل الاستاذ (القشعمي)، إلى نتائج مبهرة، يفرزها الكم الكبير من البوح الشفاهي الشخصي الذاتي، لأفراد ما كانوا ليقولوا شيئاً يوماً ما، عوضاً عن أن يكتبوا في مجالات التوثيق.
إن الباحثين (القشعمي والحيدري)، هما بحق، من استطاع تحريك البركة الراكدة في السيرة الذاتية السعودية اليوم، فالسيرة كما يقرر أهل الاختصاص في هذا الفن، جنس أدبي واسع الانتشار في الآداب الغربية، ثم ظهرت بعد ذلك في الأعمال العربية - المصرية واللبنانية على وجه خاص ويعود ذلك على ما يبدو، إلى الفرق بين سقف الحريات الإبداعية والفكرية عند الغرب وعند العرب.. فلأن هذا الجنس الأدبي، يهتم بتعرية الذات، وتسليط الضوء عليها، ثم يتعدى إلى كشف مراحل زمنية، تشمل مفردات، وشخوصاً، وأوضاعاً اجتماعية وسياسية وثقافية، فهو في حقيقته المجردة، ليس ذاتياً، بل يتضمن حياة الآخر، وكذلك المحيط الذي يكتنف الكاتب.
أما لماذا ظل ادباؤنا يحجمون عن الخوض في بحر فن (السيرة الذاتية) فلأن الكتابة عن النفس عند عدد منهم - كما يقول الدكتور (الحيدري): تشعرهم بشيء محذور.. فكلمة أنا.. تقترن عند اكثرهم، بتقييد واستثناء، يخفف من مباشرتها وقوتها.. ونرى في بعض كتاباتهم الذاتية، التي ترد فيها كلمة (أنا)، حلية معها مثل:(أنا.. واستغفر الله من أنا)..! أو (أنا وأعوذ بالله من أنا)..! ونحو ذلك. انظر الكتاب ص 165،164.
لقد آن ل (السيرة الذاتية) ، أن تتبوأ مكانتها في الحياة الأدبية السعودية، فالدور البنائي المنتظر لها عظيم، وأدباء العرب القدامى، وعوا هذا الدور للسيرة الذاتية قبلنا، فعنوا بتسجيل تراجم شخصية لحياة المفكر والأديب والشاعر والمؤرخ.. نصوص ابن سينا، وكتاب العبر لابن منقذ، وسير أعلام النبلاء للذهبي، مثال لذلك.
ولكن ما هي هذه السيرة الذاتية التي نطنب في الكلام عليها..؟ إن صورة هذا الجنس الأدبي، ما زالت على ما يبدو، غير واضحة المعالم في بعض الذهنيات المتلقية، فهل هي سيرة ذاتية Autobiography، ام سيرة لحياة Biography، ام ترجمة شخصية، وذاتية، ويوميات Diaries، أم هي مذكرات Memories..؟ فإذا قبلنا أن يدرج هذا كله تحت مسمى ( أدب السيرة الذاتية)، فهل نسمي التراجم الشخصية المجردة للمؤلفين والكتاب والأعلام، سيرة ذاتية..؟
لعلي أميل إلى ما يأتي من ذلك كله، في عباءة روائية، لأنها تقوم على التشويق والتوثيق، وفيها صدق رمزي أو خيالي جذاب، وهناك ما عداها من سير ذاتية خارج أثواب الرواية، تستحق المنزلة، إذا اعتمدت على الصدق في الكتابة الذاتية الموثقة.
Fax:02 73061055 |