عامر محسن الشهري، واحد من الإرهابيين الجهلاء الذين اُبتلي الوطنُ بهم، كان قد أصيب في معركة مع قوى الأمن، وحرمه أصحابه من فرصة العلاج الطبي، حتى تجرثمت جراحه وتدهورت حالته، ولاقى أجله المحتوم، ثم قام أصحابه بدفنه في أحد الصحاري قرب الرياض، وأخفوا قبره خوفاً من انكشاف فعلتهم المشينة. وبعد ان توصلت الجهات الأمنية إلى خيوط هذه الجريمة قاموا باستخراج جثته من الحفرة التي دفنه أصحابه فيها ونظراً لتحلل الجثة لجأ المختصون في الطب الشرعي إلى تحليل (الحمض النووي) الذي أفاد ان صاحب الجثمان هو فعلا المدعو عامر الشهري.
عند هذا الحد كان يجب ان تنتهي القصة غير ان المرجفين في المدينة أبوا إلا ان يعيدوا روايات (الكرامات) المفبركة من جديد بادعاء ان هذا (الإرهابي) لم تتحلل جثته، منذ دفنه في (الحفرة) وحتى استخراجه منها، وبالتالي فهذه دلالة على انه شهيد! والغريب ان هذا الزعم السخيف، والبعيد كل البعد عن الحقيقة، وعن الرواية الرسمية، تقبله كثير من السذج بالتصديق، الأمر الذي حدا ب(الجزيرة) - مضطرة - لنشر صورته عندما تم استخراجها من الحفرة التي دفنه أصحابه فيها، وقد بدا على جثته التحلل، ليدحضوا رواية (الكرامة) وبالتالي (الشهادة) المزعومة.
ورغم ان هناك إجماعاً من كل علماء الأمة المعتبرين على مختلف أطيافهم ومشاربهم ان ممارسات هؤلاء الإرهابيين لا تمت للإسلام بصلة، وانها افتئات على الدين بشكل عام، وعلى الجهاد بشكل خاص، نجدُ من جعل التصدي (بالخوارق) وفكر الكرامات، مُقدماً على إجماع علماء الأمة، ليتلمس في الخرافات قناعاته، ويستمد من الإشاعات إيمانه، ضارباً عرض الحائط بكل أقوال العلماء وفتاويهم.
هذه الإشاعة التي تبين أنها كاذبة ومفبركة، لم تأت من فراغ، فقد كان لها سوق رائجة ومزدهرة أيام الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، فكم سمعنا عن تلك الجروح التي كانت تنزفُ مسكاً من أجسام المجاهدين، وكم قرأنا عن ذلك المجاهد الذي فجر دبابة سوفيتية بحفنة من تراب، وعن تلك الطيور البيضاء التي كانت تخرج فجأة على الطائرة الروسية فتجعلها تتساقط كالطيور، وغيرها من المعجزات والخوارق التي كان يروج لها عبد الله عزام وأصحابه.
عبد الله عزام، ولغايات لا تخفى على الحصيف، كان يُحاول آنذاك أن يُخفي، أو يتجاوز، الدعم الأمريكي المادي واللوجستي والاستخباراتي للمجاهدين، الذي يعودُ له الفضل كل الفضل في تضييق الهوة بين إمكانيات المجاهدين العسكرية المتواضعة وبين قدرات وقوة وإمكانيات السوفييت المتفوقة، بالرغم ان السبب لا علاقة له بالدعم الغربي والأمريكي على وجه الخصوص، وإنما ب(الكرامات) التي خص الله بها المجاهدين وحرم منها السوفييت رغم تفوقهم التقني والعسكري.. ولأن التأكد مما كان يروجه عزام لم يتتبعه ويبحث فيه أحد، كما في قضية الشهري، تلقاه الوعي الجمعي الإسلامي بالقبول والتصديق، وهذا ما يفسر لنا ظاهرة تنافر أولئك الاغيلمة البسطاء مرة اخرى لقتال أمريكا في افغانستان، فقد كانوا ينتظرون في لهفة مساندة تلك (الطيور البيضاء) العسكرية التي ستعيدُ (روايات) عبد الله عزام، وتعملُ عمائلها بطائرات (اللإف 15) و(البي 52)، وصواريخ (التوما هوك) الأمريكية، مثلما فعلت بطائرات الميج والطوافات الروسية، غير ان النتائج كانت كما هي نواميس الله جلا وعلا في الكون، لا كما هي خرافات عبد الله عزام المختلقة. وهذا أيضا ما ينطبق على أنصار جهيمان ومهديهم المزعوم، فقد كانوا ينتظرون ان يخسف الله بالجيش الذي سيحاربهم، فجاءت النتائج كما تتذكرون!.
والسؤال الذي يطرحه هذا السياق: لماذا كل هذا الإيمان الجارف بالخوارق للعادات والبعد عن مقتضيات العقل ونواميس الله في الأرض الذي يسيطر على ذهنية الإنسان المسلم في هذا العصر؟. على ذلك يُجيب الدكتور عبدالرحمن عيسوي في كتابه (سيكولوجية الخرافة والتفكير العلمي) ص18 بالقول: (ويذهبُ البعض إلى القول بأن الخرافات يزداد انتشارها في فترات القلاقل والاضطرابات الاجتماعية وتعرض المجتمع لمواقف الصعوبة والشدة).. ويواصل معترضاً: (ولكن يبدو ان العامل المؤثر في انتشار الخرافة والتفكير الخرافي ليس في الصعوبات والقلاقل وإنما في عدم انتشار العلم والاكتشافات العلمية التي تهدي الناس وتضع أيديهم على الأسباب الحقيقية لما يحيط بهم من ظواهر).
فالحل، كما يرى الدكتور عيسوي، لانتشالنا من سيطرة فكر الخرافة يكمن في مزيد من العلم والوعي والثقافة (وإدراك علل الأشياء الحقيقية بالاعتماد على الملاحظة والتجربة والاستدلال العقلي والاستقراء السليم).
فهل ندرك ذلك أم أننا في غينا عَمِهون؟.
|