يتوقف الناظر في القرآن عند خواتيم سورة الصف التي اشتملت على النداء المبارك الذي صدرت به هذه الأحرف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ}. وهو دعوة صريحة للمؤمنين من هذه الأمة خاصة أن يجعلوا شعارهم نصرة الله، بنصرة دينه وشريعته وأمته، وأن يكون ذلك همَّهم وكدَّهم، وليس نصرة شخص أو طائفة أو جماعة أو أسرة أو دولة أو نحلة...
ثم ذكَّرهم بقول عيسى عليه السلام للحواريين: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ} قال الحواريون: {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ}. والملاحظ هو اختلاف الصيغة والتركيب، فعيسى عليه السلام قال: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ}؟ فأضاف النُّصرة إليه، لكنها ليست نصرةً لشخصه لأنه فلان، ولكن لأنه يدعوهم إلى الله. والفارق واضح بين الصيغتين؛ فالصيغة العيسوية تناسب بني إسرائيل، بل النخبة المختارة منهم: الحواريين، والذين التـزموا بالنصرة، ومع ذلك وُجد من بعضهم التردد والتساؤل.
أو أن تلك الصيغة تناسب بعثة عيسى إليهم خاصة في زمان محدود، فكان وجود النبي بينهم من أهم ضمانات الاستمرار على الحق وعدم النكوص، وكأن الحواريين بقولهم: {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ} أظهروا تجرُّداً تاماً وديمومةً على النصرة أكثر مما في مُكنتهم وطاقتهم، والله أعلم.
أما {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} فلهذه الأمة التي يقوم وجودها أصلاً على الارتباط بمنهج الله وحده، سواء وُجد الرسول بينهم -صلى الله عليه وسلم- أم لم يُوجد، فهي أمة خاتمة وليست مؤقتة، ولهذا خُوطبت بمثل قوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}.
كما أن دعوته عليه السلام لم تكن خاصةً محصورةً في فريق أو قبيل أو جنس، بل هي دعوة للعالمين، ولذا فالإيمان والجهاد ماضيان إلى قيام الساعة، كما في قوله - عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق عليه: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية...)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر أيضاً: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم). ومثله حديث: (لا تـزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة...).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة؛ لذا نُوديت الأمة أن تربط نصرتها بالله لا بغيره، علماً بأن نصرة الرسول -عليه السلام- هي نصرة لله، ونصرة للمؤمنين كذلك. ولكن الملمح المهم هو عدم ربط النصرة بوضع معين، بل هي نصرة باقية ما بقي الليل والنهار، وأنه في حال القوة والضعف، والغنى والفقر، والكثرة والقلة، والعزة والذلة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين، ألاَّ يربطوا نصرتهم لربهم ودعوتهم بنصرة شخص بعينه، وأن يضعوا الأشخاص عند قدرهم بلا غلو ولا جفاءٍ، وأن يحفظوا دعوتهم وملَّتهم من أن يتسرَّب إليها شوب من انحراف الأمم الكتابية في منح رهبانهم وأحبارهم من التقديس والدينونة لهم بما لم يأذن به الله، وأن يكون ولاؤهم للمنهج وللطريق وللشريعة وللكتاب والسنة وليس لفلان أو فلان.
ولكل قوم أئمة وسادة، ولكن هؤلاء الأئمة إنما يستحقون هذا اللقب الشريف بالتـزامهم المنهج، وصدقهم مع الله ورسوله، فإذا فرَّطوا أو قصروا حُرموا منه واستُبدل بهم غيرهم، وهذا لا يحدث إلا في أمة واعية يقظة حية، لا تبني دينها على التقليد والتبعية والهوى الأعمى، وإنما تبني دينها على العلم والهدى والنص والدليل، فهي ليست قطيعاً يُساق دون وعي، لا يدري من أمره شيئاً إلا الثقة العمياء بمَن ينعق به، كلاَّ إنها الأمة التي نُوديت بأن تنصر الله وحده، ونصرتها لمَن دونه إنما هي مشروطة بأن يكونوا من أنصار الله، فمتى أخلُّوا بهذه النصرة لم يكونوا جديرين بأن يُتَّبعوا أو يُقتدى بهم. فأين هذا الهدى الواضح مما تجده اليوم في الأمة، في جماهيرها، وفي جماعاتها الداعية إلى الله، وفي طلبة علمها، من الانجفال وراء الأشخاص، أشخاص الدعاة وأشخاص العلماء وأشخاص القادة، بلا وعي ولا تبصر ولا مناقشة ولا مراجعة ولا تصويب ولا تثريب؟!
إن الله تعالى حين قرَّر قانون الانتصار الراسخ العظيم، أبرز فيه هذا المعنى بقوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وكلُّ أحد من فرد أو جماعة أو حزب قد يدَّعي نصرة الله ونصرة دينه، وأنه ما قام غضباً لنفس، ولا طمعاً في دنيا، ولا منافسةً في سلطان، ولذلك كان التعقيب الربَّاني لتحديد مَن هم الذين ينصرون الله.
هل هم المدَّعون؟
كلاَّ.
إنهم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وأنت تلاحظ جيداً أن الله تعالى أعطاهم صفاتٍ لا تبين إلا في المستقبل {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وكم من مدَّعٍ ينكث وعده، ويتخلى عن عهده، وينهمك في دنياه. إن الكثيرين ينساقون مع الأحلام الوردية الجميلة، ويرسمون المستقبل بريشة مبدعة خيالية خالية من المآخذ، لكن حين يصبح المستقبل واقعاً مشهوداً، وليس حلماً منشوداً، تتغير المعالم، وتختلف القلوب، وتتحرك المطامع، ويصبح الجمع شتيتاً، وتبدأ التُّهم.
إن الصيغة لم تربط النصر بالذين يَعِدُون أنهم سيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، لكن بالذين علم الله من حالهم المستقبلي أنهم إن مُكِّنوا في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر.
إن الوقوع في أسر التشخيص، ونسيان المبدأ، أو تماهي المبدأ في الفرد أو المجموع يُشكِّل منعطفاً خطيراً في تاريخ الدعوات والأمم، ولا شيء كالقرآن يعيد إلى الناس توازنهم، ويحفظ لهم المبادئ التي وُجدوا من أجلها، ولهذا جاء هذا النداء المصاحب لحركة الجهاد والدعوة، مذكِّراً بأن الولاء للدين ولله ورسوله فوق الولاء للأشخاص والجماعات والتكوينات، فهل من مدَُّكر؟!
|