قال لي مَن أَثِق بمقولته: إنه سعيد جدا الآن؛ حيث أخذ الآخرون بصمة يده وعينه، عندما همَّ بالدخول إلى ديارهم. وساق جملة لطيفة من المبرِّرات، من أهمها أنه الآن في أمان من أن يتقمص أحد الأشرار شخصيته، فيترتب على سرقة الشخصية تلك مفاسد عظيمة لا يعلمها إلا الله، وربما لا تقف محطتها الأخيرة إلا في (جوانتانامو)؛ حيث ليس من المقبول أبداً أن نذهب هناك.
وواصل القول: إن القوم (طيبون)، فرغم كل ما حصل في العالم مما نعلمه جميعاً، فلم يحدث أن عكَّروا صفو الرحلة بغير ما هو معتاد قبل ذلك (السبتمبر)، اللهم إلا قليلاً من الانتظار عند مكتب الجوازات والهجرة للإجابة عن بعض التساؤلات العادية (جداً!!) والتي ترتبط بأهداف الرحلة ومدَّتها وأنشطتها. وهذا أمر جيد -كما يعتقد محدثي- لأن الأصل أن نعرف من أين جئنا؟ ولماذا؟ ومتى سنعود؟ وكل ذلك يبدو طبيعياً في نظره.
قد يكون من الممكن الاتفاق مع الرجل في كثير مما ذهب إليه، لكن البعد الغائب في الموضوع الذي لم يفتأ يؤرقني هو الحد الذي -ربَّما- نصل إليه في تبرير أفعال الآخرين، في حين نكيل الويل والثبور لأنفسنا ولذواتنا. اليوم، لم يعد مثل الأمس في العلاقة بين الشرق والغرب، والاعتقاد بأن كل شيء طبيعي هناك أو هنا أمر في محل نظر. إن فرضية أن يكون أخذ البصمة لحماية الشخصية من أن تُنتهك وتُسرق سماتها الظاهرة فرضية ممتازة وواقعية، وهي مفيدة جداً في تنظيم العلاقات الدولية الراهنة. لكن ثمة فرضية أخرى أيضاً لا تقل أهمية عنها، وهي أن كلَّ مَن يأتي هناك من العالم الآخر -اليوم- يجب أن يعلم أنه محل شبهة، وأن عليه إثبات العكس، ولن يكون (العكس) إلا بأن تؤخذ سمات هويته الغائرة في الشخصية، ليفرض عليه ذلك أن يكون (مؤدباً) (محترماً) (حذراً)، حتى (يتفضل) ويعود من حيث أتى. العلاقة المشبوهة بين (اثنين من الناس) رهينة الحذر أكثر من ارتهانها بالحماية والتقدير والرعاية. وعلاقة الغرب المعاصر مع الشرق علاقة مشبوهة، أو أنه أُريد لها أن تكون كذلك. وسياسة التبرير لأعمالهم خاصة لن تكون مساعدة في رَتْق الهوة بين الجانبين، بل لا بد من المكاشفة معهم والعمل على أساس أن ما حدث إنما حدث لأنه أُريد له أن يحدث. فلم تكن الأحداث حُرَّة المنشأ والمنبع، بل وراء الأكمة ما وراءها. لعل الدور الكبير للمجتمع الدولي المعاصر في أن يواجه هذا الواقع، وأن يعيد بناء نفسه وعلاقاته على أساس من الندِّيَّة الحقيقة. رُبَّما أُتينا من أننا جُبِلْنا على منهجية الفرضية الواحدة، وقلَّ عندنا النزوع المحمود لأن تتعدَّد فرضياتنا، أو أن نطرح تساؤلات منطقية كثيرة تقودنا لمعرفة الحقيقة، أو -على أقل تقدير- تؤدي بنا إلى أن نقرب منها. جميل هو التفاؤل بأنَّ ما يفعله الآخر إنما يعود علينا بالمنفعة، ولكن الأجمل من ذلك كله هو أن نعتقد أننا نزيهون. ولذلك فليس ثمة مبرِّر لأن يتم استقبالنا ونحن مُتَّهمون بالضرورة.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|