فتاة مسلمة من بنات هذه البلاد الطيبة، أتمّت رحلتها في هذه الحياة سريعاً حيث ودّعت الدنيا وهي ابنة سبعة وعشرين ربيعاً من عمر مليء بالخير، والصلاح، والحرص على العمل الطيب، والكلمة الطيبة.
قالت إحدى شقيقاتها عنها:
لقد منحها الله عقلاً كبيراً تزن به الأمور، وقلباً كبيراً يحب ولا يبغض، كانت رحمها الله زاهدة في كل شيء في هذه الدنيا، لم تكن تستهويها مستجدات الموضة، ووالله ما بذخت في مأكل ولا مشرب ولا أثاث، لم أرها تقتني كل ما تحب ولا تشتري كلّ ما تشتهي، قالت لأختها يوماً: إني إذا رأيت شدة تهافت الناس على شيء من حطام الدنيا أبغضته، كان لها شأن مع الأطفال، كانت حنوناً عليهم رفيقة بهم، تأسرها براءتهم، تقلقها دموعهم، لا يهدأ لها بال حين ترى مهموماً حتى تفرج همّه، إما بمالها أو بشفاعتها، أو برأيها السديد، ولو كان ذلك على حساب وقتها، ومن أجمل ما روي لها بعد موتها انها قالت:
إني بخير ولم أر كصنائع المعروف.
مرضت قبل وفاتها بستّ سنوات، وكانت مثالاً للصبر، لم تخبر أحداً بمرضها حتى ظهرت آثاره عليها، ووالله ما اشتكت وما سمعتها طيلة ست سنوات تقول: يؤلمني كذا، كانت الأولى على دفعتها، ولم تنزل عن مستواها مع مرضها الشديد.
وتابعت دراستها حتى أنهت السنة التمهيدية لمرحلة الماجستير، قسم أصول الفقه، توفاها الله سبحانه وتعالى يوم عيد الأضحى المبارك حين اشتد عليها المرض شهراً قبل وفاتها، دخلت في غيبوبة، ثم أفاقت ونطقت الشهادة، وأسلمت الروح إلى خالقها.
كاتبة من الطّراز الممتاز، تحسن التعامل مع الحرف المشرق بنور الفطرة السليمة. هكذا كانت وداد حسبما بلغني عنها من رسائل وقصائد أخواتها في الله التي حملت من صدق المشاعر، وفيض الأحاسيس ما أشعرني بقيمة تلك الفتاة التي مرّت بهذه الدنيا مرور الفاضلات الخيرات - كما نرجو لها ذلك -.
وداد الجضعي - رحمها الله - أنموذج صورته لي مقالات أخواتها وزميلاتها تصويراً مشرقاً، لفتاة مسلمة عرفت - بفضل الله - حقيقة دورها في هذه الحياة، وأدركت حجم المسؤولية التي تضطلع بها المرأة المسلمة الملتزمة الواعية المتفوقة، المثقفة في عصر اختلط فيه حابل الأفكار بنابلها، وصحيح الثقافات بسقيمها، في عصر مشحون بالمغريات، محاصر بالأباطيل، مقيد بحبال الشهوات والأهواء، تتنافس وسائل إعلامه المختلفة في عرض كل فكرة مضطربة، وصورة فاضحة، ورأي مشبوه، نعم أدركت الراحلة وداد - رحمها الله - أهمية كل فكرة مضيئة، وكلمة طيبة نقية، وخلق فاضل نبيل في توجيه عقول وقلوب فتيات الإسلام إلى الحق والخير، والحشمة والحياء، والستر والوقار، مع الإفادة من كل علم نافع، وثقافة سليمة، وعمل طيب، فأسهمت بما تستطيع، وقدمت ما كان في وسعها، وكأنها كانت في سباق مع أيام عمرها القصير بسنواته المحدودة، الفسيح بما كان لها فيه من العطاء.
لماذا نكتب عن مثل الراحلة وداد؟
لأن هذا الأنموذج من فتيات الإسلام هو المثال الواضح الصريح الذي يصدّ هجمات المبطلين، ودعاوى المنساقين وراء أشكال التحرر والانحلال في حياة المرأة المعاصرة في عالم الغرب، ومن سار مسيرته من الشرق، يصد هجماتهم التي يدعون فيها أن التزام المرأة المسلمة بدينها وخلقها، وحيائها، وفكرها الصافي، وثقافتها الإسلامية النقية، وحشمتها ووقارها، يحول دون تطورها ويمنعها من الاستمتاع بحياتها، ويصرفها عن تكوين شخصية ذات قدرة معرفية مناسبة لما يستجد في هذا العصر من القضايا والأفكار.
نعم هذا الأنموذج (الوداديّ) يقول لأولئك المتحاملين: كلاّ، إن التزام المرأة المسلمة بدينها العظيم يجعلها أقوى أثراً، وأعمق فكراً، وأقدر على العطاء النافع للأمة والمجتمع، بعيداً عن دوائر الهوى والشهوة وتلبية رغبات المنحرفين من البشر. رحم الله الأخت وداد وأحسن عزاءنا فيها وفي أمثالها من الصالحين والصالحات.
إشارة
ماتت ودادُ فيا لطول نحيب من
عرف الودَادَ بقلبها الريّاني |
من شعر إحدى صديقاتها في رثائها.
|