بعد مرور ثلاثة عشر عاماً من زواجها رُزقت المعلمة سلمى بأول مولود لها.
المعلمة سلمى لم تتغيب يوماً واحداً طيلة فترة عملها، وتحرص على الحضور الباكر للمدرسة استشعاراً لمسؤوليتها تجاه التلميذات الصغيرات اللاتي يرتدين مراييلهن ويحملن حقائبهن صباح كل يوم!!
ولأنها تتمتع بما يزيد على ثلاثة أشهر إجازة نظامية في السنة، لذا ترى أنه ليس هناك داعٍ للكسل!!
وفي نهاية كل عام تتأبط شهادات تقدير وشكر لالتزامها بالحضور، ولعدم تغيبها طيلة العام الدراسي إضافة إلى تلك الروح الجميلة التي تسكنها وتجعلها تتعامل مع تلميذاتها وكأنهن بناتها بل هن بناتها بالفعل!! وقد اطلعت على جل كتب التربية وكيفية التعامل مع النشء، وهي تطبق ما قرأته، ولا تلتفت لآراء بعض زميلاتها اللاتي يجتزن بوابة المدرسة متذمرات من المواصلات والتصحيح وشرح الدروس، وكأن مهنة التعليم مرتبطة بالشكوى والضجر!! بينما سلمى مهنة التعليم لديها متعة وهواية، لذا فهي تمنح بلا حدود ولا تبخل على تلميذاتها بمعلومة لم ترد بالمنهج، فضلاً عن النصح والإرشاد وإدخال السعادة على نفوسهن حين يتخلل الدرس المرح والبعد عن الجمود!
باختصار هي.. رائعة!!
كان يشغل بال زميلاتها أنها لم تُرزق بأطفال فهن يتجنبن بحضورها الحديث عن الأطفال ومشاكلهم اليومية مراعاة لشعورها، وكثيراً ما لهجت ألسنتهن بالدعاء لها بالذرية الصالحة.. وبالمقابل هي تطمئن على أحوالهن وتحفظ بعض أسماء أطفالهن ومراحلهم الدراسية، ولا يخالج نفسها شيء من الغيرة أو الحسد، بل لقد تقبلت عدم الإنجاب بنفس راضية ويقين بأن (لكل أجل كتاب) وسخرت حاجتها للأمومة بإغداق الحبِّ والحنان على الأطفال من حولها ولطالما صبرت وبحثت عن العلاج وقد كلَّلل الله سعيها وظهرت بوادر الحمل عليها وما انفكت تدعو ربها أن تنجب ذرية صالحة.
وحين حل أجل الأمومة زاد إيمانها بربها ويقينها بأن الله مع الصابرين، ولك أن تتخيلها بعد هذا الوقت الطويل من الانتظار تُرزق ب(حسام) طفل وسيم الشكل بهي الملامح دون عاهة، فهي تارة تحتضنه بقوة حتى تخاف عليه من الاختناق وتارة تشم رائحته!! وتعود بها مخيلتها لتلك السنوات العجاف دون طفل!! أما حين تلاعبه وتناغيه وتعتب عليه من تأخره بالقدوم فلا تملك إزاء هذا الموقف إلا أن تشاطرها فرحها بدموعك!!
حقاً يا سلمى تستحقين السعادة فطالما أدخلتيها على قلوب من حولك..
في اليوم الستين بعد الولادة، أي بعد مضي شهرين استيقظت سلمى على ناقوس يدق معلناً اقتراب الخطر!
لا يذهب تفكيركم بعيداً، فلطفل بخير ويزداد صحة وعافية فهو يرضع حليباً نقيَّا، يصدر من نبع صاف ومكمن عذب تزداد والدته سعادة وجذلاً كلما ارتوى! ولكن كان لزاماً أن تعود لمدرستها بعد انتهاء إجازتها لاستكمال مشوارها مع تلميذاتها فالإدارة كلفت إحدى زميلاتها بمتابعة التلميذات مؤقتاً لحين عودتها.
كيف؟ والطفل؟
وهل هو أول طفل لمعلمة يُترك بأحضان الخادمة التي قد تمل وتعرض الطفل لخطر ما!!
الناقوس يدقُ بعنف ويُحدثُ جلجلةً داخل نفسها! تلتفت يميناً وتطيل النظر، والطفل يرفس برجليه يناديها، وزبد لعابه يكاد ينطق بما يريد! يحرك رأسه، أن خذيني، احضنيني، اقتربي، لم يعد هناك وقت!! غداً صباحاً لن أراك! تلتفتُ يساراً والخادمة ماثلة أمامها تنتظر أوامرها وتوجيهاتها، تصورتها وحشاً سينقضُ على الفريسة!! يذهب خيالها بعيداً.. فقد قرأت بالصحف عن حوادث قتل الخادمات والمربيات للأطفال!! وبلحظة مفاجئة تنتشل الطفل وتشرع بضمه وتقبيله وبلحظات انهيار يزداد احتضانها للطفل.. شعرت الخادمة بخطورة ما تفعله الأم فاسرعت لتنتزعه من بين يديها! وبلحظة ضعف نفسي مشوب بقوة جسدية تدفع الخامة بعيداً وتصرخ في وجهها وتطلب منها الابتعاد! وفي خضم الحدث يحضر زوجها، فيهدي من روعها، ويروح يناقشها بأمر الطفل ورعايته وأنه لابد من التوكل على الله وطرد الأوهام والوساوس. وأشار عليها بأخذ إجازة استثنائية لمدة ثلاثة أشهر لحين يكبر الطفل وتصبح - هي - أكثر هدوءاً وارتياحاً، وتمنح فرصة للخادمة للتعرف على الصغير وقضاء احتياجاته بوجود أمه..
في أثناء النقاش كانت تحدث نفسها: وما جدوى ثلاثة أشهر؟! إنها بحاجة إلى ثلاث سنوات، بل ربما أكثر! إنها تفكر حقاً بالاستقالة، فهذا طفل ويحتاج لرعاية وعناية واهتمام، واي طفل؟! إنه وحيد والدته واحتمال الحمل لديها ضعيف جداً، والله كريم ولطيف بعباده!! ثم إنها سيدة تربوية تدرك أنه لابد من إعداد جيل قادم قادر على مواجهة حياته ويمنحه الأمن النفسي ابتداء من الرضاعة الطبيعية، وما يتخللها من احتضان وغرس للمبادىء الصحيحة، وتنمية اتجاهاته وانتمائه لحين دخوله المرحلة التمهيدية حتى لا ينشأ مع الخادمة على مبدأ (كثرة المساس تُذهب الإحساس) وبالتالي غرس اتجاهات سلبية من حين يفتح عينيه الصغيرتين، مروراً بانفتاح تفكيره ونهاية بكونه مواطناً صالحا مكتمل الانتماء.
وتتساءل هل الأنظمة بهذا الجمود بحيث لا تخدم الموظفات ممن هن في طور الأمومة وذلك بمنحهن إجازة تربية لوقت مناسب مع ضمان وظيفتها حين عودتها؟ حقاً ألا يمكن إعادة النظر في بعض الأنظمة بحيث تتواءم مع متطلبات مجتمعنا، وتخدم العملية التعليمية وتحقق الأهداف التربية، وبها لن تلجأ الموظفة (الأم) للاستقالة لتقوم بدورها التربوي، كما ستنتفي لدينا مشكلة التوظيف وطابور انتظار الوظائف حين يُفتح المجال لأخذ إجازة استثنائية طويلة من دون مرتب وليس بالضرورة احتساب سنوات خدمة، فالمرأة في مجتمعنا - بحمد الله - ليست مطالبة بنفقة ما لم يكن لديها ظروف خاصة.
وحين تكون الاستقالة مقابل التربية تلجأ الأم الواعية للأولى على الرغم من قسوتها، أما حين يكون هناك بديل فستدور الحلقة على الجميع.. هذه معلمة في سن الولادة والإرضاع، وهذه معلمة انتهت مهمتها تعود لمدرستها.. وأخرى تنتظر دور الأمومة تعمل حتى يأتي هذا الدور النبيل ونصبح كلنا في مضمارٍ لا ينتهي طرفه إلا بابتداء طرفٍ آخر وتقل لدينا الحاجة للعمالة المنزلية، وتختفي من حياتنا مشاكل كنا نظنها معقدة!!
سلمى.. يا أم (حسام).. أيتها المعلمة.. والأم الرائعة..
توقفي لا تكملي كتابة خطاب الاستقالة! فتلميذاتك بانتظارك..
احضري ورقة أخرى، وابدئي من أول السطر..
معالي وزير التربية والتعليم
رُزقتُ بمولود وأطمح أن يكون مواطناً صالحاً.. وأطمع في إجازة استثنائية لمدة تكفي لتربيته..
عزيزتي: لا تنسي تحديد بدايتها، أما طرف نهايتها فبيد الوزير!!
ص. ب 260564 الرياض 11342
|