Saturday 6th March,200411482العددالسبت 15 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

(أكاديميا).. اجتماعية.. (أكاديميا).. اجتماعية..
عبدالعزيز السماري

تقدم الشاب بخطوات متسارعة، ليقف أمام الجماعة، بعد أن أدى فريضة الصلاة مع المصلين في المسجد، ألقى السلام، ثم حمد الله على نعمه الكثيرة، واستعاذ بجبروته وقدرته من شياطين الجن والإنس، ليبدأ بعد توقف قصير.. يحدث الجمع، ويعظهم عن مفاسد المصيبة الجديدة التي ألمت بالمجتمع المسلم، وعن الفجور الذي صار له مريدون وأتباع من أبنائنا وبناتنا، وعن دعاة الاختلاط والسفور والفساد الذين ينفذون بسمومهم مباشرة من الفضاء الخارجي إلى أعماق منازلنا في الداخل.
لقد كان الشاب المتدين في غاية الألم والغضب مما يحدث على شاشات تلك البرامج الفضائية (الشبابية) المتحررة من القيم والأخلاق الحميدة، التي بدأت منذ فترة قصيرة تعرض شباباً وشابات.. أحدهم من أبناء جلدتنا، يعيش مع نساء تحت سقف واحد، ويتجاذب معهن الحديث والموسيقى في جنبات الليل والنهار، فحذر من مغبة استمرار ذلك التجمع المحرم بين الجنسين في برنامج واحد، وراح يذكرهم بأن المسؤول الأول لتلك القناة الفضائية (العربية) قد صرح يوماً أن (الجنس) إحدى أهم وسائله التسويقية في الخليج، وأنه أي هذا المسؤول يعمل من أجل تدمير أبنائنا وبناتنا.
لكن درجات الألم والغضب كانت تشتد في تعابير وجهه أكثر كلما تململ أحدهم، ثم خرج بهدوء من المسجد، فالجموع الحاضرة لم تشاطره الرأي (جهراً) في معارضته الشديدة للبث الفضائي المسموم بدعوات السفور والاختلاط، ولم تستجب لنداءاته الصادقة والحميمة والمخلصة من أجل الوقوف ضد الغزو الغربي لعقول أفراد مجتمعنا المسلم، فالجماهير في تلك الليلة لم تبد اهتماماً واضحاً بالوعظ (الحسن)، ولم يقتصر الأمر عند ذلك، فقد دلت الإحصاءات أنها أي الجماهير شاركت - مع الأسف - في الاستفتاءات الفضائية بفعالية، بل وصلت المشاركة في ذلك البرنامج على وجه التحديد إلى أرقام فلكية غير مسبوقة، ومن مجتمع يعد من أكثر المجتمعات محافظة في المنطقة العربية، بينما لم تشكل أرقام المشاركين من البلد الذي يبث منه البرنامج أي نسبة مؤثرة في الرقم الإجمالي للمتصلين، وهو ما يعني أن شيئاً ما يحدث، وأن التغيير في سلوك المجتمع الذي بدأت فصوله منذ عشرات السنين بدأت تظهر نتائجه على الأرض المسلمة، وهو ما كان متوقعاً حدوثه منذ ظهرت القنوات الفضائية لأول مرة، وهو ما يعني أن التحديات الحقيقية أمام قطار التغيير لا تزال قائمة، فالإنسان المحاصر سابقاً أصبح يسكن في مهب رياح التغيير، ولا نعلم إلى أي أرض ستأخذه تلك الرياح العاتية، لكن التساؤل الذي لا بد أن يفرض نفسه قريباً، وبعد هدوء العاصفة، من كان المسؤول عن انتهاء فعالية التربية الدينية ومقررات المناهج الدراسية، ولماذا قل تأثير الوعظ الديني على كثير من الناس، وكيف أصبح الإنسان ينصرف في السراء والعلانية عن دعوات المثالية والأخلاق، ليبحث عما يشبع غرائزه ولذاته، وكيف فقدت سلطة الأخلاق الإسلامية والمواعظ قدرتها على حكم الناس في المجتمع.. ومن الذي سلب بهدوء تام سلطتها الاجتماعية؟..
بالتأكيد ستكون خيبة الأمل أكثر ألماً، وستكون شدة الألم أقسى عندما نعترف بشفافية أن (النمط) الاجتماعي الليبرالي الأمريكي أو الغربي في طريقه للانتصار، ثم الهيمنة على المرابع العربية الأصيلة.. تلك هي الحقيقة، إذا اتفقنا أولاً أن زمن التغريب قد بدأ في حقيقة الأمر منذ دخل جهاز الراديو إلى أراضينا، ليصبح حينذاك الإنسان بين ليلة وضحاها، وبحركة سريعة قادراً على التنقل بين بقاع الأرض من خلال المذياع، ليسمع الموسيقى الغربية على موجة ريح قادمة إلينا من الغرب أو ليردد أنغاماً عربية على نسمة ريح شمالية، أو غيرها من البرامج المتنوعة الهادفة منها وغير الهادفة.. فقد دخل المذياع إلى معظم المنازل برغم التحذير الشديد من حرمته أو حرمة ما يبثه من غناء وترفيه ودغدغة غير بريئة ومؤذية للمشاعر الإنسانية.
كذلك انقلبت مفاهيم سائدة منذ القدم، ثم اندثرت.. بعد دخول الكاميرا الفوتوغرافية إلى أسواقنا منذ خمسين عاماً.. لتنتقل الصور والانطباعات الشخصية في منتهى الوضوح بين الأفراد بدلاً من ضبابية تلك الصور الغارقة في المجاز والتشبيه والتورية في الشعر المحكي باللغة العربية، وأيضاً منذ دخلت (المرآة) وكريم وماكينات وصالونات الحلاقة الرجالية، ومنذ أصبحت المجلات المصورة، والروايات العالمية تباع على أرصفة الشوارع الرسمية منها والفرعية، ومنذ ظهرت شاشة التلفزيون في الستينات لأول مرة، ومنذ بدأ أول دوري كرة قدم في السعودية،... إلى أن أصبحت حركة خصخصة الرعاية الصحية يقودها في الوقت الحاضر أطباء (مسلمون) في ديار الإسلام،... وإلى أن جاء الوقت الذي غدت فيه وسيلة الدعاية الطبية لشركة أدوية سعودية.. بيت شعر شعبي يدعو بصورة مباشرة تماماً.. (رجال المجتمع المحافظين) لإخماد نار الشوق ولهيب الوجدان بفعالية ضربات (السنافي) على (طار) الوجد في ليالي العارض، وإلى أن صارت أخي الكريم أشهر وأغلى لوحة سيارة سعودية هي (أ ح ب 666).
وبعد هذا الحجم الهائل من المتغيرات المتعاقبة بمساوئها وإيجابياتها هل الحل الحقيقي أن ننادي بإعادة دوران عجلة التغيير إلى الوراء، إلى حيث القرية الصغيرة، والمجتمع المحافظ والمحصن ضد الدخلاء من أطياف الفكر وأصناف البشر،.. ذلك ربما لن يحدث، فالعصر مختلف، وسلطة الحرية (الشخصية) والمساحات المتوفرة من خلال التقنيات الفضائية الحديثة وثورة الاتصالات والدعاية الإعلامية سادت المجتمع وصارت تحكمه عبر الأثير، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فالبحث عن الربح المادي المجرد من الأخلاق وسلطتها وحصانتها.. صار أهم فرسان العصر الحديث، و(اللبرلة) أو التحرر الاجتماعي حسب المفاهيم السابقة أضحت ظاهرة مستقرة في المجتمع المسلم، ولم يبق لنا ولأبنائنا من بعد ذلك إلا سلاح التحصين الذاتي، من خلال رفع درجة الوعي بمساوئ تلك الأفعال الخارجة عن دائرة الأخلاق، ثم العمل على تنمية القدرات الشخصية التي توافق متطلبات المرحلة المتغيرة.
و(بصراحة) لن يكون بمقدور أحد أياً كان عسف حصان التغيير بالعنف والتجديد والترهيب، أو الدعوة لجهاد المجتمع المسلم بالسلاح والعتاد.. فأحسن القول الموعظة الحسنة ثم العمل مع الآخرين في البحث عن طرق حديثة وأساليب أكثر تطوراً للتعايش مع النظام الاجتماعي الجديد، ثم التأثير عليه من خلال كسب ثقته التي تلاشت.. بعد أن انساقت (الموعظة الحسنة) خلف أساليب التغيير بالعنف، أو الهرولة بخطى متسارعة وراء القافلة المادية.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved