* كتبها إبراهيم بن محمد الضبيعي:
أكتب لك عزيزي القارئ من القاهرة قلب مصر بلاد النيل وأرض العجائب والحضارة العريقة. فشعب مصر هو الذي حفر القناة ورفع السد وبنى الاهرامات وبرج القاهرة وحول مصر من بلد زراعي إلى بلد صناعي.. بجانب هذه الجدية نجد ان الشعب المصري يتمتع باللياقة والمرونة وهو لطيف المعاشرة ظريف المحادثة خفيف الظل ونتيجة لكثرة السكان واختلاف طبقاتهم في العلم والثقافة وتباعد أحيائهم وأريافهم حصلت المفارقات العظيمة والمتناقضات العجيبة في العادات والتقاليد واللهجات.
ومن أبرز ما يتمتع به الشعب المصري من المميزات المرح والتندر والاثارة بالطرفة والفكاهة وربما لجأ إلى السخرية في معالجة مشاكله وله في ذلك طرق متعددة منها افتعال المنامات ومنها التظاهر بالنبوءات والجنون أحياناً وقد ابتلي الشعب المصري من قديم الزمان باحتلال أراضيه وتسلط الدخلاء على شعبه فيلجأ الشعب إلى المقاومة والاعراب عن عدم رضاه بالنكتة المعبرة والسخرية اللاذعة ويحدثنا التاريخ عن مقاومة الشعب المصري للظلم والظلمة بهذا الأسلوب المتأصل فيه ففي عهد الأخشيد أراد أحد المصريين ان يعبر للأخشيد عن كراهية المصريين له فتظاهر بالجنون وسما نفسه (سيبويه المصري) واشتهر بهذا الاسم فلما كان يوم الجمعة واصطف الناس لتحية الحاكم الأخشيد عند نزوله إلى الجامع أتى سيبويه على حماره وتخلل الناس صائحا بقوله: ما هذه الأشباح الواقفة، والتماثيل العاكفة، سلطت عليهم قاصفة، يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة فقيل له: الأخشيد نازل إلى الصلاة. فقال: هذه للأصلع البطين المسمن البدين قطع الله منه الوتين ولاسلك به ذات اليمين لاقبل الله له صلاة ولا قرب له زكاة وعمر بجثته الفلاة..
والمعروف ان الفاطميين الذين حكموا مصر وزعموا انهم من نسل فاطمة الزهراء قدموا إليها وانتزعوا السلطة فكرههم المصريون فانبرى أحد المصريين إلى الإعراب للخليفة عن تذمر المصريين من هذا اللقب المصطنع فكتب ورقة ورماها في المنبر. فلما جاء الخليفة قرأ فيها مايلي:
إنا سمعنا نسبا منكرا
تتلى على المنبر في الجامع
ان كنت فيما تدعي صادقا
فاذكر لنا بعد الأب الرابع
أو فدع الأنساب مستورة
وادخل بنا في النسب الواسع |
واستمر الفاطميون يدعون لأنفسهم المناقب والمزايا حتى زعموا أنهم يعلمون الغيب فكتب أحد المصريين ورقة وألقاها على الخليفة دون ان يعلم ومن أين أتت ؟..وقرأها فإذا مكتوب فيها:
بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
ان كنت أعطيت علم غيب
فقل لنا كاتب البطاقة |
وهكذا اعتمد الشعب المصري على مقاومة احتلال المستعمرين باستعمال النكتة والسخرية ولاذع القول وفي العهد العثماني وما بعده تنوعت أساليب النكتة وأغراضها. فانشئت المقاهي لرواد سماع النكتة وتأسست دور الصحف الفكاهية حيث أصدر ابن النديم جريدة (التنكيت والتبكيت) كما صدرت بجانبها مجلة (السيف) وصحيفة (خيال الظل) و(المسامير) و(أبو نظارة زرقاء) وكانت هذه الصحف تميل إلى نقد الأوضاع السياسية ثم صدرت صحف ومجلات فكاهية بحتة لغرض ادخال السرور والبهجة على الشعب المصري ومنها مجلة (اضحك) و(الفكاهة) وجريدة (الراديو والبعكوكه) وغيرها وتمكنت الدعابة من طبع المصري حتى شملت النكتة كل نواحي الحياة واليوم تشاهد نوادي ومسارح للمرح والتسلية وتقابل أحدهم فيبادرك ماهي آخر نكتة؟ ولبعضهم أسماء فكاهية عرفوا بها كأبي لمعة والخواجا بيجو.
وفي نظري ان النكتة إذا لم تمس الدين والاخلاق ولم تخرج عن الآداب المرعية ان لها فوائدها فهي تقوي أواصر الصداقة وتشد الرجل إلى صاحبه وتقضي على سوء التفاهم وفيها تخفيف لما يقاسيه الانسان من هموم والعكس بالعكس وفقنا الله جميعا لحسن الآداب وأكملها وشكراً.
|