قال عباس محمود العقاد: (أصحاب الجهل والغباوة لا يصابون بالمصران الغليظ وجلطة الدم، إننا لم نسمع عن حمار مات بالشريان التاجي، ولكن سمعنا عن ألوف المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء الرومانسيين الذين نزفوا حتى الموت).
عنما نتأمل هذه العبارة نرى فيها واقعية دقيقة في وصف حياة الكثير من المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء، فهم في حياة مضنية وقاسية يعانون فيها الحرمان وتجاهل المجتمع وهم أحياء - لا قيمة لتكريمهم بعد موتهم -، ناهيك عن إرهاق الفكر في مجاهل العلم وغياهب التفكير المستمر والعزلة عن الآخرين، طمعا في اكتشاف جديد أو تحقيق إنجاز متميز أو اختبار نظرية أو استخراج معانٍ جديدة ومفاهيم حديثة في أحد المجالات أو إبداع قصيدة أو بحث أو دراسة.. الخ.
هذه الحياة المرهقة - في الواقع هم يجدون متعة في هذا الإرهاق وإلا لما استمروا فيه - المليئة بالمتناقضات والتجارب الفاشلة والمشاعر المتنوعة تأخذ منهم صحتهم وشبابهم، فهل رأيت عالما صحيحا - نفسيا وبدنيا وعقليا؟! وماديا أيضا؟!.
لماذا نجد بعض الفلاسفة والشعراء يتصفون بالنفس المتشائمة والفكر الحائر والجسم العليل؟! أهو انعكاس لكثرة همومهم ومتاعبهم الفكرية، أم هو نتاج طبيعي لانعزالهم عن المجتمع وتقوقعهم على مؤلفاتهم وكتاباتهم، أم هو تضاؤل واقعهم أمام طموحاتهم ورغباتهم الواسعة والمثالية في الغالب؟!.
ولنأخذ نموذجا واحدا لكل حالة من هذه الحالات على مدى التاريخ الإسلامي، ونحصرها في الفلاسفة والمفكرين والشعراء لضيق المساحة فنقول:
ألم يكن شيخ المعرة - أبو العلاء المعري - تائهاً في هواجسه وظنونه وتشاؤمه، وغارقاً في ظلام عماه وصومعته وليله المظلم؟!.
ألم يكن المتنبي - أبو الطيب - ذلك الشاعر الأسطورة ضحية لطموحاته ونزعاته المغامرة وكبريائه الدائم - حتى ادعى النبوة -؟! ألم يقل:
إذا النفوس كن كباراً
تعبت في مرادها الأجسام |
ألم يكن شاعر الغزل - مجنون ليلى - يهيم في الصحراء ينادي بحبه لليلى، ويشتكي من هجرها وبعدها، حتى اصبح مجنوناً واقعاً لا صفة؟!.
ألم يكن زكي مبارك - الدكاترة زكي كما كان يسمي نفسه - به جنون العظمة وحماس التفوق، حتى أصبح مَن حوله لا شيء وهو الباقي في قمة العلم والمعرفة والفلسفة - كما كان يرى نفسه كذلك - ؟!.
ألم يكن الفقي - محمد حسن - حزينا على يتمه المبكر وتجاربه الفاشلة وضياع أمانيه وأيامه وشبابه؟! أمد الله في عمره.
ولنعود إلى العقاد نفسه ألم يكن غارقا في القراءة والكتابة في عدة فنون، متقناً لعدد من العلوم والمعارف أكثر من المتخصصين فيها، حتى أورثه ذلك ترفعاً على الأطباء وتحقيراً لعلمهم، لما لديه من المعرفة في الطب والأدوية وتأثيرها، فكان عنيفاً في رأيه معهم ومع غيرهم، حتى أصيب بالمصران الغليظ - الذي مات منه - فلا يستمع إلى نصائحهم ولا يأخذ بمشورتهم؟!.
فهل علمه وتبحره في المعارف جعله لا يلتفت لصحته؟ أم ان طبعه العنيف ونفسه الصلبة أورثاه الإصابة بهذا المرض؟ أم أن المرض سبب له شراسة في الطبع وعنفوانا في الرأي وقسوة على نفسه وعلى الآخرين؟.
يالحياتكم أيها المبدعون ويالشقائكم وعذابكم!
صحيح أن أصحاب الجهل والغباوة أكثر الناس راحة واطمئنانا،ً لأنهم لا هم لهم، فطموحاتهم لا تبعد عن موطأ أقدامهم وفهمهم لا يتجاوز مسلمات الحياة إن علموها أصلاً، فهم يعيشون لليوم فيأكلون ويشربون كالأنعام؟، يقول الشاعر:
الذل في دعة النفوس ولا أرى
عز النفوس دون أن يشقى لها |
فلا راحة مع العلم ولا شقاء مع الجهل، فاختر لنفسك - عزيزي القارئ - ما تشاء.
|