يقولون: إنّه من اللاَّزم لكي يحافظ المرء على كفاءة ذاكرته أن يدربِّها كلَّ يوم على تذكّر أشياء قديمة من أوجهٍ عَبَرت، أو أرقامٍ رُصدت، أو مواقفَ احتدمت، مع التركيز على استحضارها، أو أنّ عليه أن يذهب إلى (الألعاب) الفكرية التي تتطلَّب التركيز والانتباه، ويجلس إليها بضع ساعات في يومه، أو أن يمشي ما شاءت قدرته، ويمارس الرياضة ما سمحت أوقاته، أو أن يزجَّ نفسه داخل مسبح أو بحر أو نهر أو بحيرة ليغسلها مع جسده، ويمرِّنها مع عضلاته!!، وإن لم يفعل شيئاً من ذلك فإنَّ عليه أن يندسّ داخل مجموعات ثرثارة لتغذية تنشيط ذاكرته بكلمات مرَّ عليها زمن ولم تطلبها له الحاجة إليها... حتّى إن كان هو منهك القوى في عمله وليس في حاجة لمزيد من المشي أو الركض أو الرياضة مع تنظيمها أكثر من حركته الاعتيادية، وإن كان هو كذلك ليس في حاجة لأن يغذِّيه (الثِّرثارون) بما يدرُّ حنينه إن جاءت مفاتيح ألفاظهم بما يستدعي حنينه أو بكاءه إن فعلت ذلك أو حتى غضبه إن جاءت على نحوٍ ما؛ لأنَّ هذا الإنسان قد لا يكون في حاجة لمزيد من الحزن أو البكاء والحنين أو حتى الغضب؛ فمثيرات حفيظة الإنسان في واقعه كفيلة بأداء مهمة استفزازها؛ فكلَّ ما بين يدي الإنسان المعاصر عامل منشِّط وموقظ، بل محرّك لهذه الذاكرة إن كان كلُّ ما سبق عوامل لتنشيطها!!، فحتى الأجهزة الصغيرة بين يديه تحمل في برامجها ألعاباً شتَّى، وأساليب لاستخدامها تنشِّط الذاكرة؛ إذ في تصميمها تارةً يستعمل برنامجاً حسابياً، وتارةً لغوياً، وآخرَ يستلهم الأسماء فيها بأحرفها الأبجدية كما هي تقوده بأزرَّتها المنظمة لتفعيل ذاكرته؛ إلى الدخول في خانة الألعاب، وشيء منها فكريّ، وآخر مرفِّه، وبعضها يحتاج لمهارات عديدة، جميعها تنشط الذاكرة فيه.
فإذن، لماذا ينسى الإنسان المعاصر؟
والناس قد انتشر النسيان في سلوكهم، وكذلك انتشر مرض الزهايمر واتسع نطاق تشغيل عيادات أطباء الأعصاب، والأطباء النفسانيين؟
والطب الشرعي تزايدت الحاجة إليه؟
ونعرج فنقول وأطباء التغذية؟
لكن: الملوّثات كثيرة... وجميعها تستهدف مركز التجمّع الرئيس في الإنسان (الذاكرة) وبدونها فهو يحيا ولا يحيا، ويكون ولا يكون!
ولكن: الملوّثات الكثيرة ليست تقف عند حدود: الدم الساري في عروق وأوردة وشرايين الإنسان، فتلك تحتاج إلى تنقية وتصفية لتصفو الذاكرة وتؤدي آليتها العضوية، وليست كذلك ضغوط الاستخدام والاستهلاك تلك التي توصله مع الزمن إلى حدود بشريته وقدرة الله فيه؛ إذ يُقدَّر له مع ذلك الفقد التدريجي الطبيعي، وليست كذلك ملوثات البيئة تلك التي تؤثِّر في قدراته وكفاءاته المختلفة بشتى الطرق ومنها الذاكرة...، ولا هي أيضاً ملوّثات الكيانات الأخرى فيه كالوجدان والمشاعر والأحاسيس ومعقل ما في سلوكه وأخلاقه ونمط فكره... فتلك جميعها ملوثات متضافرة تجعله يهرب بذاكرته مغلقاً بابها، صادّاً عن إجاباتها... مستنفراً جميع أطبائها!!
ولكن: هناك ملوّث من نوع آخر...، بعيداً عن علوم المختصين في الطب البشريّ، أو النفسيّ، أو الشرعيّ، أو البيئيّ، أو... أو...
هو ملوّث يلحّ، ويُقْسِر، ويُفْرِضُ على الإنسان النسيان!!
وهو نسيان مرغوب فيه، يقع باستسلام مرئيّ وغير، تلقائيّ وغير، عن وعي به وغير، نسيان يمارسه الإنسان راغباً فيه، عندما يبحث عن (حلم):
فرَّ منه واستقصى...
غاب عنه.. لا يأتي
بَعُدَ منه.. ولا يدنو
فتذكّروا أحلامكم تلك التي عابثتموها طويلاً، وداعبتموها أزماناً، ولهثتم وراءها ولم تتصيَّدوها، وفرَّت منكم دون أن تعتقلوها، تذكّروها عندما كنتم صغاراً، وغادرتكم قبل أن تكونوا بها أو معها كباراً... أحلامكم الأولى، ومدائن الفضيلة التي عشتم فيها معها مع تلكم الأحلام المفقودة... تدركوا سرّ النسيان فيكم... فكما تُذَكِّركم أحلامكم، كما تُنسيكم، وكلَّما عدُّتم إليها عادت لكم ذواكركم يقظة، فابدأوا رحلة العودة إلى أنفسكم.
|