يظن الكثيرون أن ثمة فرقاً بين الإعلام والاستشراق, فالإعلام يقوم عليه قوم متخصصون في مجالات الإعلام المختلفة, بينما الاستشراق جهد وعمل أكاديمي تخصص فيه نفر من الغربيين الذين يعيشون في أبراجهم العاجية لا شأن لهم بالإعلام. ربما يكون هذا الأمر صحيحاً قبل أكثر من مائة سنة حينما كان الإعلام في بداياته أما وقد أصبحت للإعلام قوة عجيبة اليوم فأضحى التداخل كبيراً بين الإعلام والاستشراق. وإليك تفصيل ذلك.
في أثناء بحثي عن الاستشراق البريطاني اطلعت على مجلة اسمها (المستمع العربي) كانت تصدر عن هيئة الإذاعة البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي هذه المجلة وجدت العديد من المستشرقين البريطانيين قد كتبوا العديد من المقالات والدراسات عن العلاقات البريطانية العربية. بل إن بعض كبار المستشرقين من أمثال آربري وبرنارد لويس قد كتب كل واحد منهما عن الجهود البريطانية في الدراسات العربية الإسلامية.
وكتب غيرهما من المستشرقين عن الحضارة الإسلامية وربما كتب مونتجمري وات عن أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الغربية. ومثل هذه المقالات إن لم تكن علمية بحتة ففيها قدر كبير من الدعاية, ومحاولة لتقوية العلاقات العربية البريطانية في وقت تحتاج فيه بريطانيا للعالم العربي ليقف معها ضد دول المحور.
وانتهت الحرب الأوروبية (تسمى خطأ عالمية) فهل انقطعت الصلة بين الاستشراق والإعلام؟ بالطبع لا فهذه بريطانيا ترسل احد كبار المستشرقين ورئيس قسم التاريخ بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ليقوم بجولة في الولايات المتحدة الأمريكية للاتصال بوسائل الإعلام الأمريكية المختلفة من إذاعة وتلفاز وصحافة ليقدم وجهة نظر الحكومة البريطانية في أحداث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وتصدر الإذاعة البريطانية مجلتها التالية باسم (هنا لندن) ويستمر المستشرقون في الكتابة فيها. ومن بين الموضوعات التي كتب فيها المستشرقون في المجلة باب (السياسة بين السائل والمجيب) وقد صدرت عدة كتيبات مستقلة فيها إجابات على اسئلة كثيرة حول أوضاع العالم العربي. ولا شك ان بعض هذه الأسئلة حقيقية ولكن بعضها أيضاً مفتعل لتروج الإذاعة لمواقف أو أفكار معينة.
ومازلت أذكر سؤالاً قيل انه ارسله احد المستمعين في السودان عن تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان. فكان رد الخبير البريطاني في الشرق الأوسط أن شعار تطبيق الشريعة الإسلامية إنما هو فكرة غامضة, وقد أشار الخبير الى ان كثيرين قد رفعوا هذا الشعار ولكنهم لم يقدموا تفصيلات حقيقية لهذا الشعار.
وتقدم الإذاعة البريطانية أيضاً برامج منوعة منها عروض الكتب التي تصدر في بريطانيا أو الكتب العربية. وتأتي اختيارات هذه الإذاعة بإيحاء استشراقي واضح, فتهتم الإذاعة مثلاً بكتب أحمد أمين (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) وتهتم بكتاب علي عبدالرزاق مثلا (الإسلام وأصول الحكم) وتهتم بكتب طه حسين ولعل إذاعة لندن هي من أطلقت عليه (عميد الأدب العربي), وهي من أطلقت على لطفي السيد (أستاذ الجيل) وأذكر أنه في أسبوع واحد عرضت الإذاعة لكتب المستشار محمد سعيد العشماوي التي يطعن فيها بالإسلام ويشوه صورته وينفي العلاقة بين الدين والسياسة, وتأتي مجلة عربية تصدر من لندن وتقدم لقاءً من ست صفحات مع العشماوي. فهم هناك اتفاق بين الجهتين.
وتستمر الصلة بين الإعلام والاستشراق. وأبرز الأمثلة على هذه الصلة ان العديد من المجلات الأمريكية تستكتب عدداً من المستشرقين ومن هذه المجلات مجلة (ال نيو رببلك) New Republic ومجلة اتلانتك الشهرية Atlantic Monthly وقبلهما مجلة كومنتري Commentary ونشرة جريدة نيويورك تايمز لعرض الكتب New York Times Review of Books فهذه المجلات تنشر الكثير من المقالات لأبرز المستشرقين الأمريكيين ومن هؤلاء على سبيل المثال برنارد لويس، وقد دار سجال كبير بينه وبين ادوارد سعيد على صفحات هذه النشرة الأخيرة نيويورك رفيو اوف بكس.
وقد انساقت بعض المجلات التي لم يعرف عنها تناول القضايا الجدلية مثل مجلة المختار Reader's Digest فنشرت مقالات تحمل طابع الكتابات الاستشراقية التي تهاجم الإسلام وتشوه صورته وتقدمه في صورة سلبية.
ولم يتوقف الأمر عند الصحافة فالتلفاز والقنوات الفضائية والإذاعات ترجع الى المستشرقين كثيراً في أخذ رأيهم في القضايا التي تهم العالم الإسلامي. فهذه المحطات الفضائية الأوروبية والأمريكية وحتى العربية الإسلامية تستضيف ريتشارد بوليت من جامعة كولومبيا وتستضيف فؤاد عجمي - وهو لبناني من الجنوب ويعمل في أمريكا منذ عشرات السنين وله آراء أخطر من كثير من المستشرقين - وتستضيف برنارد لويس وريتشارد لتل Richard Littleودانيال بايبس Daniel Pipes وفيتالي نومكن Vitaly Naumkin وغيرهم كثير.
وجاء دور الإنترنت فكلمة استشراق تجدها في عشرات الألوف من الصفحات وتحمل الآلاف من المقالات التي كتبها المستشرقون. فهناك مواقع متخصصة في الاستشراق وأخرى تابعة لمؤسسات ومراكز بحوث ومعاهد متخصصة في دراسات الشرق الأوسط أو الشؤون الدولية أو الدراسات الاستراتيجية. ومن الأمثلة على النشر الانترنتي اللقاء الذي اجراه أحد الباحثين في معهد الدراسات الدولية التابع لجامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي مع فيتالي نومكن, ومن الموضوعات التي تناولها اللقاء: موقف الروس من الإسلام, وموضوع العراق, والاهتمام الروسي بالدراسات العربية الإسلامية.
ولم يبتعد الاستشراق عن السينما او لم تبتعد السينما عن الاستشراق, فهناك الكثير من الأفلام التي استمدت رؤيتها للإسلام والمسلمين من كتابات المستشرقين وتراثهم الضخم في تشويه صورة العالم العربي الإسلامي وتنميط العرب والمسلمين في السينما الأمريكية معروف جداً وقد كتب عنه الباحث العربي الأمريكي جاك شاهين العديد من الكتب.
إن كثيراً من الإعلاميين من صحفيين ومخرجين ومقدمي برامج إذاعية وتلفازية عندما يريدون إعداد برنامج عن العرب والمسلمين فإنهم يلجؤون الى كتابات المستشرقين القديمة والحديثة يستندون إليها ويستمدون منها معلوماتهم.
وتبقى مسؤوليتنا نحن في العالم العربي الإسلامي نترك للإعلام الغربي بشتى اشكاله ان يقدم الصورة التي يريد لنا دون ان نحرك ساكناً او ننبس ببنت شفة. بل إننا نقوم في أحيان كثيرة بترجمة ما يكتبونه عنا من شتم وسب ونقوم بتوزيعه ونشره وهو ما فلعته إحدى الشركات في الجزيرة العربية من اتفاق مع شركة ديزني لاند لترجمة العديد من مجلات الأطفال الى اللغة العربية.
وهي الشركة التي كان ينبغي علينا أن نقاطعها منذ زمن طويل لما قدمته وتقدمه من أفلام تسيء الى صورة العرب والمسلمين وتشوه العقيدة الإسلامية والشخصية الإسلامية.
|