* رؤية : إبراهيم المعطش :
شهد الإعلام العربي تطوراً ملحوظاً في الفترة الماضية، خصوصاً مع بداية العقد الأخير للقرن الماضي حيث خرجت بعض المحطات الفضائية عن المألوف، وأخذت تورد الأخبار بشكل فيه شيء من الحرية والنقد، وان كانت هذه الاستقلالية تمثل مجرد تمويه لصورة الدعم الرسمي الذي تتلقاه بعض تلك القنوات التي تبدو وكأنها مستقلة.
ولنا وقفة مع هذا التطور النوعي، الذي لم يقتصر على القنوات العربية المنشأ فحسب، بل أخذ يسيل لعاب دول أخرى رأت أن تطلق أخبارها عبر قنوات عربية ليس من قبيل الغزو الفكري هذه المرة بل ربما بقصد تشكيل جدار ناري حول أطروحاتها التي باتت تواجه التشكيك وعدم المصداقية من قبل المتابع العربي، خصوصاً بعد أحداث الحاري عشر من سبتمبر 2001م وما تبع ذلك من أحداث كان الدور الإعلامي العنصر الفاعل في تبريرها.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن هامش الحرية الإعلامية الذي تتحلى به بعض الفضائيات العربية مرده إلى المدرسة اللبنانية، التي نشأت في أجواء من التعددية سمحت لها بتناول أداء الأجهزة الرسمية بشيء من النقد البناء، بالإضافة إلى الواقع الاجتماعي المتحرر في لبنان الذي أعطى تلك الفضائيات مساحة واسعة لمناقشة الموضوعات الأكثر حساسية ليس على صعيد السياسة فحسب بل من الناحية الدينية والاجتماعية وتجيء هذه الوقفة لقراءة واقع القنوات الإخبارية المتخصصة التي تبث إرسالها باللغة العربية والتي تزعم الاستقلالية في طرحها وأبرز قنوات هذه الفئة هي العربية، والجزيرة والحرة.
وقبل أن ندخل إلى حيز التقييم والمقارنات بين هذه الفضائيات تجدر الإشارة إلى أن الكادر الإعلامي العامل في الفضائيات العربية حالياً خرج في معظمه من مدارس تتمتع بنوع من الحرية الإعلامية، سواء الإعلام الأوروبي(بي.بي.سي) أو الإعلام اللبناني، لذا فهو كادر متمرس إذا وجد المناخ الذي يجعله يطلق قدراته وخبراته في مختلف فنون العمل التلفزيوني المتميز، لكننا لا يمكن أن نعفيه من الوقوع في فخ توجه القنوات الفضائية التي عمل لديها، لأننا مهما وصفنا هذه الكوادر بأنها تشربت شيئاً من الحرية وفقاً للمدارس التي تنتمي إليها، فهي لا تعني لدى المؤسسات الإعلامية العاملة فيها أكثر من مجرد موظفين لا يخرجون عن الخط الإعلامي والسياسة المرسومة برغم أن البعض منهم استطاع ببراعته الإعلامية، وقدراته الإبداعية أن يجعل من حدود حريته، ومساحة تحليقه تنسجم إلى حد كبير مع سياسة الفضائية التي يعمل بها.
هذا الكادر الذي نتحدث عنه هو الذي يمسك بزمام الأمور في كل من (الجزيرة) و(العربية) وهو ذاته الذي حاولت الحرة أن تصطاده لنفس الأسباب سالفة الذكر. فلنعد للحديث عن كل قناة على حدة.
ف(الجزيرة) التي كان لها قصب السبق في هذا المضمار استندت في بداياتها على فضاءات الحرية التي انطلقت فيها.. ليس في الحدود القطرية (بالطبع) ولكن في الحدود التي رسمت لها.. في إطار الخريطة وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي التي ركزت على نقدها بكل ما أوتيت من قوة بمنطق أو بلا منطق، فهي أعطت نفسها مساحة واسعة من الحرية لطرح العديد من القضايا العربية لاعتمادها على حماية الحكومة القطرية لها (التي تعتمد على الدعم الأمريكي المطلق) - سياسياً على الأقل - وتستند إلى صغر حجم الدولة وقلة تأثيرها في الوسط العربي مما تعتقد أنه أدى إلى تجاهل الدول العربية الكبرى لها.
استطاعت إلى حد ما أن تحظى بمشاهد قطاع مقدر من الرأي العام العربي، وكان لانفرادها بتغطية حرب أفغانستان دور مهم في ترسيخ هذا الاعتقاد.. غير أن تطورات الأوضاع.. وبروز علاقات مشبوهة لبعض رموز (الجزيرة) مع عناصر استخباراتية إرهابية أو سيئة السمعة أدى إلى أن يقيّم المشاهد العربي تلك القناة وفق ميزان واقعي، ومن هنا بدأت في الانحدار، وتراجع جمهورها بصورة جلية إبان الحرب على العراق، ومع ظهور محطات فضائية كانت تنقل مجريات الحرب بتجرد ودون مبالغة في التعاطف مع طرف دون الآخر من حيث نقل الأخبار، كما أقحمت (الجزيرة) نفسها في فتن وملاسنات لا طائل من ورائها مع دول عربية لها سمعتها، ومكانتها وتاريخها القائم على الحكمة في التعامل مع الأمور.. فساعد ذلك على اهتزاز مكانة هذه القناة رغم القوة التي ظهرت بها بعض برامجها في بدايات انطلاقها وبهرت بها المشاهد العربي الذي كان يتوق إلى مثل ذلك الطرح لكنها سرعان ما كشفت عن وجهها الحقيقي وارتباطاتها المشبوهة، وأهدافها المغرضة فأدار الكثيرون ظهرهم إلى شاشتها من غير أسف ولا بكاء.
قناة (العربية) جاءت في وقت متأخر مقارنة برصيفتها (الجزيرة) وكان عليها أن تبني جمهورها من الصفر وكان التحدي أمامها كبيراً، والفرصة لكي تثبت جدارتها أضيق من الفرصة التي أتيحت ل(الجزيرة) التي انطلقت على انفراد كمحطة إخبارية متخصصة ناطقة بالعربية لا تتناول الشأن الداخلي - وكانت أول تجربة ومحك رئيسي أمام قناة (العربية) هي الحرب العراقية التي اغتنمتها خير اغتنام وقامت من خلالها بتغطية مهنية احترافية لا تحتاج إلى ضوء لكي يدرك المتلقي تفاصيل مضمونها، وسجلت حضوراً قوياً في موقع الحدث، وحرصت على الموضوعية في الطرح، والبعد عن أتون الصراعات الطائفية والمذهبية بل كانت تميل إلى الواقعية في تسمية الأشياء بمسمياتها التي فرضها الأمر الواقع وليست التي يتمناها البعض.
وتلمست طريقها خطوة خطوة، تعضدها المهنية التي يتميز بها كادرها، والإمكانيات المادية الكبيرة التي جعلتها تغطي مساحة واسعة من الكرة الأرضية بشبكة مراسليها المنتشرين في غالبية دول العالم، بل في عدد من المدن داخل الدولة الواحدة إذا كانت من بؤر الصراع والأحداث الساخنة إلى حد كبير حاولت قناة (العربية) تجنب المزالق التي وقعت فيها (الجزيرة) والتي جعلت الكثيرين يتساءلون عن توجه تلك القناة، وأهدافها، ومن يقف وراءها؟ وماذا تريد بالفعل، وما مصلحتها في بث الفرقة والشتات بين الأنظمة العربية، والمجتمعات، وذلك من خلال البرامج المثيرة التي تقدمها (الجزيرة) لاستقطاب المشاهدين..هذه السلوكيات التي أدت إلى تراجع أسهمها، والتشكيك في توجهاتها ومنطلقاتها.. هذا ما استطاعت (العربية) تفاديه وهي ترسي تجربة رائدة جعلتها أكثر موضوعية في الطرح وشمولية في التناول، ودقة في تحري الأخبار من مصادرها الأساسية..
وهذا - أيضاً - ما يجعلنا نقول إن (العربية) احتلت موقعاً مرموقاً في نفوس مشاهديها وهي تسعى جاهدة لأن تكون على قدر الاسم الذي اختارته لنفسها.
أما قناة (الحرة) التي أطلقتها الولايات المتحدة لتقلل من مفعول قناتي (العربية) و(الجزيرة) خصوصاً على مستوى الساحة العراقية.. فهي ما زالت قيد التجريب وإن كانت الملامح الأولية تعطي المشاهد فكرة عن التوجهات والقدرات وإمكانية المنافسة أو عدمها.. وهي بصريح العبارة جاءت لكي تقول ما يساعد على (تبييض) وجه البيت الأبيض لدى العرب.. وقد سبق انطلاقتها تصريح من وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بأن كلاً من (الجزيرة) و(العربية) تعرقلان تحقيق الأهداف الأمريكية في العراق (واللبيب بالإشارة يفهم) وقد تكون (الحرة) فعلاً حرة في كل شيء ما عدا تناولها للسياسة الأمريكية بطريقة محايدة.. ولا السياسة الإسرائيلية - بطبيعة الحال - وعلى وجه الخصوص تفاصيل السياسة الأمريكية في العراق.. والسؤال الذي يطرح نفسه.. ويحرر مدى نجاح (الحرة) هو هل ستؤثر هذه القناة على الرأي العام العربي؟ يصعب أن نجيب بنعم.. أولا الطبقة النخبوية العربية لا تشاهد في الفضائيات العربية إلا برامج محددة في أوقات محددة بمعدل برنامج وآخر في اليوم - في أحسن الحالات - فهل سيكون هذا البرنامج من نصيب (الحرة) أم (العربية) أم (الجزيرة)؟ أما بقية فئات المشاهدين فهي غالباً تميل إلى الترفيه والطرب أو البرامج التي لها ارتباط بقضايا وطنية حساسة تهم مشاهدي كل بلد.. فهل الحرة قادرة على ذلك؟ أو بالأحرى جاءت من أجل ذلك؟ وهل تحقق هذه القناة الأهداف المرسومة لها من قبل الأمريكان وتنجح فيما فشلت فيه الدبلوماسية الأمريكية والآلة الإعلامية الضخمة التي تمتلكها الولايات المتحدة لتغيير الصورة التي رسمتها الحروب، ومظاهر الاستقواء؟! الواقع يقول غير ذلك لسببين:
أولا: لأن (الحرة) جاءت لتكون نداً لقنوات قائمة وراسخة ولها جمهورها ومصداقيتها التي يصعب على (الحرة) بناء مثلها لدى المشاهد العربي في ظل السياسات الحالية للدولة التي تنتمي إليها.. مما يجعلها تنكفئ على الحالة الدفاعية الأمر الذي ينعكس سلباً على أدائها الحرفي، ورسالتها المهنية.
أما السبب الثاني فيتمثل في الصعوبة التي ستواجهها لكي تجسد رؤية مغايرة لما يراه المشاهد والرأي العام العربي عن السياسة الأمريكية التي ارتبطت بمواقف معروفة تجاه القضية المصيرية والمحورية للعرب.. وكذلك بالنسبة للانتقائية في تعاملها الدولي.. وهذا يجعل من مهمة (الحرة) أكثر صعوبةً وبالتالي ستضاف إلى الأعباء المالية التي تتحملها الإدارة الأمريكية، أكثر من كونها منبراً لإضفاء المساحيق والماكياج على وجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط فماذا ستقدم هذه (الحرة) وماذا ستضيف للمشاهد العربي حتى (يتسمر) أمامها؟ ويعلق عليها الآمال؟!
هي بالفعل قد دخلت مراثون الفضائيات الإخبارية.. ولننظر من يفوز بالسباق؟.
|