أدخل على عبدالملك بن مروان عشرة من الخوارج، فأمر بضرب رقابهم، وكان يوم غيم ورعد وبرق، فضربت رقاب تسعة منهم، وقُدّم العاشر ليضرب عنقه فبرقت برقة، فأنشأ يقول:
تألق البرقُ نجدياً فقلت له
يا أيها البرق إني عنك مشغول
بذلّة العقل حيران بمعتكفٍ
في كفّه كحباب الماء مسلول
فقال له عبدالملك ما أحسبك إلا وقد حننت إلى وطنك وأهلك، وقد كنت عاشقاً، قال نعم يا أمير المؤمنين، قال لو سبق شعرُك قتلَ أصحابك لوهبناهم لك، خلّوا سبيله ايها الحرس فخلوه.
ولو تأملنا هذه الرواية لادركنا أن الخير في حب الوطن الذي لا يمكن أن ينزع من قلب امرئ يرتجى فيه الصلاح، ولذلك أطلق عبدالملك هذا الخارجي لأنه لمس فيه حب الوطن والأهل، وهذان الأمران الفطريان عطلهما من يعلم الشباب أصول التكفير والإرهاب، مما أدى إلى إفراز مجموعات تخرب بيوتها بأيديها، والشيطان قد زين لهم سوء هذا العمل، بل إنهم يحسنون صنعاً وقد جعلوا القرآن والسنة وراءهم ظهرياً، واقبلوا بقضهم وقضيضهم والليل في أوله، والبومة ذات العينين المستديرتين على غصن شجرة قد اجتثت من فوق الارض، ما لها من قرار، تهز جوانب هذا الغسق بنعيبها الحزين الذي ينذر بأن القادم أكثر تعقيداً من كل الاختزالات الكيدية والنكايات الإعلامية التي اتخذها الخائنون مطية لتدمير هذا السياق الجميل وتشويه هذا النسق العظيم، ونحن لا ندري إلى أي جهة نلتفت فالعدو أمنامنا يرصد كل صغيرة وكبيرة وابناء جلدتنا المتربصون لا يغادرون شبهة الا وقد تعلقوا بها ليجدوا مبرراً وذريعة في تحطيم كل السفن التي نحلم أن نصل بها إلى الأمان المطلوب ليفرضوا علينا واقعاً يضجّ بنمط صعب ونمط مخيف من كل الجهات، والآفاق شاحبة لا تعد بإشراق قريب لكائنات تصرخ: رباه أليس لهذا الليل من آخر؟! فالبشرية مهدوّة بالعودة إلى عصور الرق وأسواق النخاسة ولا تجد لها في شعاب الجغرافيا أي تضاريس تحميها من وابل الموت حيث لا يرجى لذلك الجسد وتلك الذاكرة شفاء، فالعقل البشري لا يمكن أن يتصور سفاحاً يليق بمعنى (الزفة) لان العروس أم الجميع، فبئس العرس وبئس العريس السفاح المغتصب.
أيها النبلاء اننا نمر بتجارب مكررة كل عشر سنوات ولذلك لا بأس من البحث في التفاصيل التي لم تنجح في علاج تلك الفيروسات المزمنة التي تتناسل في حاضنات التفريخ ولا بأس في قول قليل من الحقيقة، لأن هذا المستقبل يعني كل فرد منا، فقد أثبتت نظرية تأجيل علاج السرطان بالأحزمة الضوئية فشلها، لأنها اكتفت بالتخدير الموضعي دون التدخل جراحياً في استئصال تلك الخلايا المملوءة بالفساد، والأدهى من ذلك أن التأجيل أدى الى انتشار العنف السرطاني في ذلك الجسد الطاهر.. وفي كل غيبوبة يتعرض لها عقلنا الباطن نكتفي بعدم الإثارة وترك الفتنة ونحن لا نعلم أن الفتنة تحاك خيوطها وتم تدبيرها بليلٍ أليل على يد ذلك الأرعن المتجرد الذي يجلد الأمة بدماء تراق لمختلف الذرائع وأجساد تصلب على مختلف الألواح، والأشد إيلاماً أن ذلك السمسار الحاذق يتقن فن المراوغة، فيمرر نشاطه المؤدلج بطريقة المسح على الرأس بكلمتين من الإطراء الكاذب في وسائل الإعلام، والتدمير بآلاف الجمل المعترضة التي لا محل لها من الإعراب في سفر هذا الوطن البليغ شاهداً على نفسه بقوله تعالى {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }.
وما من حقبة في التاريخ الا ولها مرتزقوها الذين يفكرون ذاتياً على ظهر عربة تجرها خيول عمياء ويكتبون بأقلام شطبت أهم العنوانات، وحذفت أجمل السطور، وهيمنت على كل حرف من الحروف الأبجدية، ويتجاوزون ذلك الهامش الأحمر المرسوم على حساب التراب ليجمعوا كل فنون الخيانة ويطرحوا كل قوانين الأرض ويضربوا ظهر الحقيقة بالسياط ليوهموا انها رحمة وفي باطنها العذاب العقيم وهم أشبه بالاطفال الذين يعبثون في الحروب والزلازل المدمرة التي اثبتت أن الجدران غير آمنة والبيوت ليست للحماية، ولم يدركوا أن كل الفئات على مختلف مشاربها قد استغلت ارهابهم لصالحها، وليتهم سلموا انفسهم للجهات الأمنية وتركوا السلاح واستجابوا لنداء الحكمة والرحمة قبل أن يقدروا عليهم، لان الموت على توبة ومراجعة خير لهم في الدنيا والآخرة وخير لهم من تمرير مشروعات الآخرين على ظهورهم وبخاصة هذه البيانات والتوقيعات التي تطالب بنسف ثوابتنا الدينية والاجتماعية وما يتخللها من تغيير للمناهج وتدمير للمرأة والمجتمع على من اصيبوا بفيروس العدميّة سواء كان بالمعنى الإسلامي او الوطني، يحاورون وهم سبب الاستبداد، ويصلحون وهم سبب الفساد، ويشتركون في دراسة الواقع وتقديم الحل المناسب وهم الذين هيج الشباب وغرس في نفوسهم هذا التطرف وهذا الارهاب، لا يتجاوزون في تفكيرهم ارنبة انوفهم ادخلونا في مواجهة الآخر وهم انفسهم يحاولون اخراجنا من تلك المواجهة ، ساروا بالشباب إلى هاوية سحيقة لا آخر لها بالنصوص الصماء في هذه المرحلة القذرة من مسلسل الاحباطات والهزائم القومية ، وبكل اسف إلى هذه اللحظة فقد شهدنا اسقاطات لم يشهدها التاريخ إذا أصبح شعور الفرد يزداد قلقاً على مصيره ومصير احفاده وتراثه وحضارته، ركزوا على نقد الذات وتركوا المراجعة، وتفننوا في الهجاء واستمراء القضم ولم يتركوا فرصة للاصلاح الذي لا يمكن أن يكون مثل فقاعة الصابون، بل يحتاج إلى وقت نستطيع من خلاله أن نبني قواعد هذا المجتمع المدني ومؤسساته المدنية على أسس ثابتة تقاوم عوامل التعرية وتوقعات الأرصاد...
والقضية الكبرى في تاريخ هذه الأمة منذ الأزل أن كل فرد يحمل مشروعاً ذاتياً يحاول أن يعتمد على الإسلام ليحصل على تأييد في مشروعه الشخصي الذي ربما لا يتجاوز الحصول على دراهم معدودة أو غير ذلك شاهداً على نفسه بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة.. إن اعطي رضي وإن منع سخط) بل ان الدراسات النفسية أثبتت ان هؤلاء ينطلقون من عقد اجتماعية ونفسية، وتلك العقد قد تكون عِرقية وقد تكون اخلاقية وسلوكية وقد تكون نفعية في التاريخ الفردي لمن يحمل تلك الأفكار أو يبرر لها، ولا زلنا على مدى عقود نقابل ذلك بإفراط في إعدام الخيارات الفاعلة، ونعالج الفيروس المتناسل بطريقة بدائية مثلما يعالجون عامر الشهري عن طريق تعليمات في كتاب الإسعافات الأولية وهو ينزف موتاً، ولم يقتصروا على ذلك بل ناقش بعضهم بعضهم بجواز قتله ودفنه مثل جيفة بعيداً عن مقابر المسلمين، وليتهم تذكروا تلك الحادثة التي جرت للصحابة حينما أفتى بعضهم ذلك الرجل المسلم بوجوب الغسل وهو مريض بجرح عميق في رأسه، ولما اطاعهم واختلط الماء بالدم في دماغه فمات، فأخبروا المصطفى فقال قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا ان كانوا لا يعلمون او كما قال، مع أن الفارق بين الفريقين جد كبير، في المعتقد والنية وسلامة الصدر والمنهج وذلك الفارق يحتاج إلى قدر من الثقة والتماسك العقلي لبيانه وايضاحه وفضحه على رؤوس الأشهاد كي نخرج من هذا المأزق الذي يزيد من مناعة ذلك الفيروس بالاسباب والمبررات والحيثيات، وتجاوز هذا العمى الذي لم يميز الحدود الفاصلة بين الأصل والصورة والصوت والصدى والطبع والتطبع والمشروع الوطني والمشروع النفعي الذاتي ولا بد من معرفة الناب الذي ينغرز في لحمنا والسيكولوجيا التي تصفعنا بصعقات كهربائية قاسية تحولت بنا إلى أجندة تقاوم قضم اللحم وهرس العظم وامتصاص النخاع وكل قوى الشر التي تتربص بهذا الوطن العملاق واهله العظماء الذين هم أكبر من كل عمليات الترخيم والتجويد للمؤامرات الكارثية تحت ذريعة ادبيات النميمة السياسية وعبقرية تقويل الواقع مالم يقله وتعليق الخيانات على الذرائع السخيفة على لسان خطابين متناقضين اسلامي يدعي ذلك وغير اسلامي يصرح بذلك، وكل منهما يشتم الآخر الى وقت قريب احدهما في القاع والآخر في القمة، تآلفا ولا تدري كيف تآلفا في هذا المستنقع المطاطي، المملوء بالطحالب والسراخس الخضراء والعفن الحاذق في الافلات من مسؤولية الامن الفكري الذي أدى جهله بالحركية وأنشطتها والعلمانية وهدفها إلى هذه الحروف العارية والاحتقان المتراكم في ظل من لم يتلقح بالقدر الكافي ضد هذا الزكام السياسي، إذ يلدغ كل عقْدٍ من ذلك الجحر بآلاف الثعابين والعقارب والحيات وعمليات الترميم السياسي تتوقف ثم تحيا بمزاجها، وليتها صبغت بصبغة وطنية قبل هذا الهيجان الخارجي والداخلي، فالأكلة تداعت على قصعتها والقصعة لم تدرك ذلك، فبدأت تنهش ذاتها وتحاسب في وقت غير مناسب على يد طوفان اشد خراباً من ذي قبل، فالجار مسروق، والصديق مخذول والجميع في دوامة الصداع الذي لا يقبل وقف النزيف في عروق لا تفرق بين حكايات الفعل المبني للمجهول والمبني للمعلوم، وتشهد بتدفقها الأليم بأنها في هذه الالفية الثالثة أكثر تعقيداً من ألفية ابن مالك ذات الجمل الممنوعة من الصرف، وبعد كل هذه الخيانات ضد الأمة لا يمكن أن تعود إلى أصلها مهما اضيفت إلى ايديولوجيات التاريخ واتصلت بآلاف الألفات واللامات في جميع اللغات البشرية البائدة والحية.
والله من وراء القصد