(ما أكثر العبر وأقل الاعتبار) هذه كلمة ماجدة راشدة قاصدة قالها خليفة راشد ماجد، ألا ما أكثر العبر وأقل الاعتبار في دنيا الناس المليئة بالمفاجآت، تكثر العبر والمواعظ (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، وفي مصارع الذاهبين ذكرى وأي ذكرى! فمن لا تذكره هذه المواقف وهذه المشاهد فهو الذي مات قلبه وتحجر فؤاده وتبلد طبعه، والنفس البشرية أشد حساسية بمصارع الذاهبين، لكنها أقل وعياً وإدراكاً ويقظةً لمثل هذه المواقف المؤثرة المثيرة. في آن واحد، إنه الموت نهاية كل مخلوق على ظهر هذه الأرض والذي لابد منه مهما طال أمد الحياة وامتد الأجل بالإنسان.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
والإنسان لا يدفع الموت عن نفسه ولا عن غيره {قل إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} فلا مهرب ولا فكاك وهي لفتة من لفتات القرآن الموحية للناس والمقررة لحقيقة ثابتة ينساها الناس في خضم الحياة والموت يلاحقهم أينما كانوا، وهي صورة قرآنية متحركة موحية عميقة الإيحاء والتصوير والتأثير، والفناء يشمل كل حي ويوقف كل حركة، لكن تستقر في الطبع السليم والحس الكريم حقيقة البقاء لله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أما ما عداه فتبقى الحقيقة القاسية المريرة التي لا دافع لها {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} تنتهي ومضة الحياة الدنيا الخاطفة، ثم يمتد الوقت بعد ذلك وتمتد الأحمال والأثقال، والموت بتكراره على الناس كأنه صوت منذر متجدد متعدد يصيح بنوّمٍ غافلين ساهين لاهين لاهثين وراء السراب المنتهي إلى خراب. أقول هذا وقد ودعت مدينة بريدة الوفية لرجالها وعلمائها وقادة الفكر فيها اقول ودعت مدينة بريدة شخصية علمية كريمة، صاحب صفات حميدة وسمات فريدة ،عرف في الأوساط العلمية بالنبل والفضل والسبق والصدق، صدق الهدف وصدق الاتجاه ،سبق الكثير في الكثير من العلوم والفنون، فهو رحمه الله مؤرخ المملكة العربية السعودية وتاريخه مرجع أُخذ للباحثين والدارسين وطلبة الدراسات العليا وأهل التدقيق والتوثيق، وتاريخه مرجع هام في تاريخ هذه المملكة السعيدة وهو رحمه الله محب لقادتها، معني بتاريخهم وتراثهم كل العناية، كما أنه مدقق وموثق لأحوال علماء هذه البلاد، وله اهتمام خاص ومكثف في تتبع سير العلماء النبلاء من أهل هذه البلاد خاصة وغيرهم من علماء المسلمين، كما أنه والحق يقال من رموز التربية والتعليم في هذه البلاد، إنه من قادة وموثقي التعليم الأصيل فلقد كان الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن من ألمع طلبة الشيخ عمر بن سليم رحمه الله صاحب المدرسة العلمية المميزة في منطقة القصيم ،والذي تخرج على يديه العديد من العلماء الفضلاء الأجلاء، وقد واصل الشيخ إبراهيم تعليمه وتدريسه تأسياً بمشايخه، فكان يدرس العديد من الفنون وقد تخصص - رحمه الله بالإضافة إلى العلوم الشرعية- تخصص ودقق وتفنن في التاريخ والنحو والصرف، أما علم الفرائض فهو رحمه الله مرجع فيه وهو الذي يحل عويصها وتأتيه المسائل من داخل المملكة وخارجها وكان رحمه الله دقيقاً ورفيقاً ومتأنياً في حسابها وإعطاء كل ذي حق حقه، وقد واصل رحمه الله تعليمه لطلابه في المدارس الحكومية منذ التحق بها في وقت مبكر، وكان أحد مدرسي المدرسة الرائدة في بريدة، أعني المدرسة الفيصلية، وشيخنا إبراهيم رحمه الله مع ذلك أديب أريب وشاعر، مبدع وقد سخر فكره وقلمه رحمه الله للعلم والتعليم، وقال القصائد الجميلة المؤثرة في تاريخ هذه البلاد الطيبة، ومدح الملك عبدالعزيز رحمه الله كثيراً و رثاه بقصائد جميلة معبرة ومؤثرة وصادقة، وكذا أبناءه البررة من بعده، فهو رحمه الله محب كثيراً لهذه البلاد ورجالها وحكامها الميامين وعلمائها العاملين، وقد ألف وصنف العديد في مختلف الفنون: في التاريخ الذي سبق الحديث عنه، ثم وظائف شهر رمضان خرجت في وقت مبكر جداً من عمره، فقد كتبه وكان شاباً متوثباً نحو العلم والتعليم، فنال الكتاب القبول والاستحسان وطبع طبعات كثيرة وكان الطلب عليه عظيماً، وقد وفق الشيخ إبراهيم رحمه الله في تأليفه أيما توفيق، إذ نقل كثيراً عن فرسان البيان وأساتذة الزمان، وقد تميز الكتاب بالأسلوب السهل السلس المعبر والمؤثر، وكان الناس يستريحون إلى سماعه في رمضان، وقد قسمه إلى أبواب وفصول حسب الحال وما يرغبه الناس، ثم بعد ذلك واصل رحمه الله تأليفه وتصنيفه فكتب العديد من الكتب وكثيراً ما يطبع كتبه الكثيرة على حسابه الخاص، وله رحمه الله طريقة مميزة في التدريس والتأليف، فهو صاحب صبر وجلد وتحمل وإحسان، فهو المسلم الصالح الباذل المنفق بسخاء يلتمس الخير ويفعل المعروف ويسعى كثيراً في الصالح العام، ولم يكن أبناء المملكة والمنطقة بأقل وفاءً لمن قدم الخير والبر والمعروف والإحسان لهم ولبلادهم وأبنائهم، فكان المشهد وفياً ومثيراً، والدعاء صادقاً ومعبراً والود حاراً، وهو عزاء ووفاء لرجال العلم والمعرفة وللعلماء العاملين ولرجال التربية والتعليم قل أن يحظى به سواهم، فالأمة بحمد الله وفية وكريمة خاصة لمن قدم الخير ونشر الفضيلة وجثى على الركب متعلماً وعالماً ومؤلفاً ومفتياً وموجهاً وناصحاً ومقدماً الخير لبلد العطاء والفضل والإحسان وقام بحق وصدق عميق على تنشئة الشباب والطلاب تنشئة صالحة ومصلحة، وهو أقل جهد ممكن يقدم لمثل هؤلاء الرجال الذين لم تشغلهم زخارف ومتع الحياة وبهرجها الذين وفوا بواجبهم وعمروا أوقاتهم بطاعة الله وما عند الله خير وأبقى، والعاقبة للمتقين، ويوم الجنائز مؤشر عظيم وكبير وذو دلالة حية وموحية تبعث في النفس السوية التوجه إلى فعل الخير وعمل المستطاب من الأقوال والأفعال، كما أن يوم الجنائز مؤشر على الوفاء والصفاء، والحب والقرب بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لأهل الفضل والنبل والعطاء والبر والإحسان.
كأنك من كل النفوس مركب
فأنت إلى كل النفوس حبيب |
إن محبة العالم والوفاء له من طبع هذه الأمة الكريمة:
تخالف الناس إلا في محبته
كأنما بينهم في وده رحم |
رحم الله شيخنا إبراهيم العبيد وأمطر قبره شآبيب رحمته ورزق أهله وأولاده وأحفاده الصبر والسلوان و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
|