الغدر خداعٌ وخيانة، واعتداء على الحقوق في غفلةٍ من أَصحابها، والغادرُ لايرعى لأحد ذمَّةً، ولايحفظ أمانة، ولهذا كانت صفة الغدر مذمومة عند الناس جميعاً، وكان للإسلام موقفه الصارم منها، نهياً عنها، وإنكاراً لها، وعقاباً لأصحابها، وحسبك تحذيراً من صفة الغدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يُنصب يوم القيامة لواء لكل غادر ويُقال على رؤوس الأشهاد هذه غَدْرةُ فلان.
وهنالك موقف نبوي كريمٌ يؤكد لنا الرفض القاطع لهذه الصفة الذَّميمة، يرويه لنا المغيرة بن شعبة الثقفي -رضي الله عنه- فيقول:
عزم رجالٌ من بني مالك على زيارة مصر، والدخول على ملكها المقوقس، فعزمت على مرافقتهم، وقد كنتُ أبعد الناس يومئذٍ عن التفكير في اعتناق الإسلام، واستشرت عمي عروة بن مسعود الثقفي في خروجي إلى مصر مع القوم، فنهاني عن ذلك، وقال: أنصحك ألا تخرج مع غير بني أبيك، ولكنني خالفت نصيحته وخرجت مع القوم، وكنتُ معهم كواحدٍ منهم/ فلمَّا وصلنا مصر، كان المقوقس في مجلسٍ له مطلٍّ على البحر، فاستأجرتُ زورقاً، وأبحرت به حتى مررت أمام المقوقس، فلما رآني سأل عني، وأرسل إليَّ من يسألني فأخبرتهم بخبري وخبر الرجال الذين كانوا معي، فلما أخبروا المقوقس أظهر الترحيب بنا، وأذن لنا بلقائه، فلما حضرنا مجلسه نظر إلى رأس بني مالك فأدناه إليه، وأجلسه معه، ثم سأله: أكلُّ القوم من بني مالك؟ فقال: نعم، إلا رجلاً واحداً من الأحلاف فعرَّفه إيَّايَ فكنت أهون القوم عليه، ووضعوا هداياهم بين يديه، فرحَّب بها وأمر بقبضها، وأمر لهم بجوائز، وفضَّل بعضهم على بعض، وقصَّر بي فأعطاني شيئاً قليلاً لا ذكر له، وخرجنا فأقبل القوم يشترون هدايا لأهلهم مسرورين، ولم يعرض عليَّ أحدٌ منهم مواساةً، ثم عزمنا على الخروج من مصر، واشترى القوم خمراً ليشربوها في طريق سفرهم، فقلت في نفسي: يعود القوم إلى الطائف فيتحدثون بما نالوا من التقدير عند المقوقس، وما حصل لي من تقصيرٍ وازدراء منه لي، فأجمعتُ على قتلهم، فادَّعيت أنني أعاني من الصُّداع حتى لا أشرب من الخمر، وقلت لهم: أجلس وأسقيكم، فمازلت أسقيهم حتى أهمدتهم الكأس، فناموا لايعقلون شيئاً، فوثبت إليهم وقتلتهم جميعاً، وأخذت جميع ما معهم، وانطلقتُ إلى المدينة قاصداً النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عزمت على الإسلام، وإعطاء الرسول ما أخذت من مال القوم ومتاعهم، فلما دخلت المسجد وجدته جالساً عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، وكانت آثار السفر بادية عليَّ، فسلَّمت بسلام الإسلام، فعرفني أبوبكر وكان بي عارفاً، قلت: جئت أشهد ألاَّ إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك للإسلام، ثم أخبرتهم بخبر سفري إلى مصر، وقتلي للقوم، وماجئت به من أسلابهم، وطلبت من الرسول عليه الصلاة والسلام أنْ يرى فيها رأيه، فقال: أما إسلامك فنقبله، ولا نأخذ من أموالهم شيئاً، لأنَّ هذا غَدْرٌ، والغدر لا خير فيه، فلما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أصابني همٌّ كبير، وقلت: يارسول الله، إنما قتلتهم وأنا على دين قومي، ثم أسلمت حين دخلت عليكم الساعة، قال، فإنَّ الإسلام يجبُّ ماقبله، وأبى أنْ يأخذ من أسلاب القوم شيئاً.
الغدر لا خير فيه، ولا يأتي بخير لأصحابه أبداً، موقف إسلاميٌّ واضح مع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان بحاجةٍ إلى المال،وكان في حالةِ حَرْبٍ مع المشركين، وكان يعاني من مكائدهم ما يعاني، ولكنَّ الإسلام دين الهداية والوفاء والوضوح والرحمة، ودين الحقّ، فهو لايقبل الغدر أبداً، ولايُقِرُّ عليه أحداً.
وقد أشار المغيرة بن شعبة في قصته إلى أن ثقيفاً حينما علموا بما صنع برجال بني مالك، جهَّزوا أنفسهم للأخذ بالثأر، لأنه قتل منهم ثلاثة عشر رجلاً ثم اصطلحوا على أن يحمل عروة بن مسعود عم المغيرة ثلاث عشرة دية.
إنَّ صفة الغدر لاتتفق مع الخيريَّة التي شهد الله سبحانه وتعالى بها لهذه الأمة الوسط {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ولذلك كان الغدر بعيداً كلَّ البعد عن أمةٍ ذات خيرٍ وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإيمانٍ بالله العليِّ القدير.
هذه المواقف المشرقة، المبشِّرة بالخير دائماً، إنَّما جاءت موافقةً لما شرع الله لعباده من تعاليم هذا الدين الكامل الشامل الصالح لكل زمان ومكان.
إشارة:
نعم، لغة الأحداث لا تعرف الهمسا
ولكنَّ قلب الحرِّ لايعرف اليأسا |
|