إذا أردنا تغيير أوضاعنا يجب أن نغير ما بأنفسنا.. هذه حقيقة أقرها المولى عز وجل في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .. ومن أجل التغيير الفعال لما بأنفسنا يتوجب علينا أولاً ان نغير مفاهيمنا.
ومن المفاهيم التي أدت وستؤدي إلى نتائج خطيرة خاصة على سلوكيات الشباب- وهم الأمل والأكثر عدداً وقوة- مفهوم الصفات البشرية، حيث قام بعضنا بتنزيه بعض البشر لحبهم لهم لسبب أو لآخر تنزيهاً مطلقاً.. كما قام بعضنا الآخر بتشويه بعض البشر لبغضهم لهم لسبب أو لآخر تشويهاً مطلقاً ، فأصبح ما يقوله المنزهون في جميع المجالات مقبولاً وصحيحاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأصبح ما يقوله الآخرون مردوداً في جميع المجالات لأنه باطل وليس من الحق في شيء.
إن خطورة الفهم السيئ للصفات البشرية تتمثل في تجميد العقل وإيقاف عملية التفكير، وإلغاء الموضوعية القائمة على استخدام مبدأ الملاحظة والاستنتاج والترابط، وتحديد المسببات في ربط الأشياء بعضها ببعض، واستبدال ذلك بالاعتماد على نوعية مصدر الرسائل، فإن كان المصدر منزهاً قبلت الرسائل، وان كان مشوهاً رفضت دون تفكير أو تدقيق أو تمحيص.
كما تتمثل الخطورة أيضا في التقليل من شأن الذات وجلدها المستمر، لأن الفرد التابع لفرد منزه تنزيها كاملاً يريد أن يصل لمنزلته ويقتدي به لكنه لا يجد لذلك سبيلاً لأنه بشر(وكل ابن آدم خطَّاء) فهو يقع في أخطاء مستمرة في مواضع ومجالات متعددة مما يجعله متناقضا مع نفسه.. متألماً يأمل أن يجد طريقاً مختصراً لتحقيق أهدافه دون هذه المعاناة التي تتجاوز القدرات البشرية.
إنه من الحقائق المؤكدة أن لكل فرد هويته وشخصيته الذاتية وتفرده وقيمته.. ولديه الكثير من الإمكانات التي يمكن أن تخرج إلى حيز الوجود حسب السرعة والمعدل الملائمين .. كما لديه من العوائق والقصور والمشاكل ما ينتج إخفاقات وتقصيراً في مواضيع ومجالات متعددة .. وبالتالي فالبشر مختلفون ولا يمكن أن يتماثل اثنان .. كما انه لا يمكن لبشر أن يكون على صواب في كل ما يقول ويفعل في كل مراحل حياته، بل يصيب ويخطئ ،وتتغير قناعاته ومفاهيمه من عمر لآخر حسب التجارب والظروف التي يمر بها والبيئة التي يعيش فيها.
الغلاة في تقديس البشر، ونزع بشرية الإنسان منه، وإضفاء الصورة الملائكية عليه وجعله كائناً لا يخطىء.. يقابلهم الجفاة الذين لا يرون في أعمال الآخرين إلا كل خطيئة ولا في أقوالهم إلا خطل خاطىء .. يراد به باطلا وان بدا حقاً.
كما يقابل الغلاة والجفاة.. هؤلاء الذين لا يعلمون أن لكل جيل مبدعيه.. وان المعرفة عملية تراكمية تكبر وتزداد وتعمق مستفيدة مما يصب فيها من أنهر المعرفة وجداول الفكر، وإلى ما يشكلها من تجارب وخبرات.. وإلى ما يظهره ويخترعه مبدعو وموهوبو كل جيل.
كما أن هؤلاء الجاهلين بتلك الحقيقة البشرية، لا يعلمون أن سرعة التقدم المعرفي في العصور الحديثة تفوق سرعة التقدم المعرفي في العصور القديمة وبنسبة تفوق آلاف المرات.. فما حققته البشرية خلال المائة عام الماضية، يفوق كثيراً ما حققته البشرية خلال العشرة آلاف عام التي قبلها.. بل ان هناك من يقول إننا في مطلع الألفية الميلادية الثالثة نمر بحالة انفجار في المعرفة.. وإن الاتصالات بثورتها المشهودة سوف تجعل ما يحققه البشر خلال العشرين عاماً القادمة يتفوق على ما حققته البشرية خلال المائة عام الماضية.. التي هي بدورها تفوقت على كل ما حققه البشر من بدء الخليقة.
وهذا يشير إلى حقيقة ان الانسان في العصور الحاضرة أكثر كفاءة منه في العصور السابقة لا لفرق في القدرات البشرية بل للفرق الهائل في الإمكانيات التقنية والعلوم والمعارف المتراكمة.
إن تقديس فرد يلغي فردية الإنسان ووجود الآخرين.. ويخنق إبداع المجتمعات.. ويختطف عقلها ومستقبلها.. فيولد عصر الانحطاط.. فتتحول المجتمعات إلى رعاع يجترون الأفكار والكلمات.. ويخافون من كل جديد وطارىء من فكر أو ذوق أو ممارسة.. ويتحولون إلى رقيب شرس ضد كل ما لم يألفوه .. ومعاد مناكف لكل ما لم يرده، ويرثه ممن سبقوه.. وهنا يستحكم الانغلاق .. ويزدهر عصر الانحطاط.
من كوارث تقديس الأشخاص أنه يقود إلى حجب الحقائق.. ويوقف نمو العقل والتفكير ويحد من القدرة على التقويم ويفسد الذمم ويحيل الناس إلى إمعات مأسورين لفكر فرد نزع من بشريته فصار فوق مستوى المراجعة أو النقد او التدارك.. وقد نسي بعض الناس انه لا يوجد علم مطلق ومعرفة نهائية.. كما سنوا ان ابن ادم قصير العمر، محدود الامكانات، ضئيل الطاقة، ضعيف القدرة على التحكم فيما حوله.
قبل مائة وعشرين عاماً صرح مدير عام هيئة تسجيل براءات الاختراعات بنيويورك، أن ما تم التوصل إليه من اختراعات ذلك العام يعد الدرجة القصوى مما يمكن اختراعه في الحياة الدنيا.. وانهم في الهيئة لا يتوقعون تسجيل براءة اختراع أخرى تتجاوز ما تحقق.. يا له من جاهل!؟.
|