تداعت أطياف من النخب الفكرية الناضجة دربة ودراية بالواقع المعيش على مدى بضع سنين مضت إلى إرساء أرضية صلبة للحوار الوطني، من أجل العمل الجاد لتطويق ما ظهر في ساحات الوطن من بوادر أزمة فكرية، تطورت إلى أزمة ثقة بين بعض الناس في النظر إلى ما دار من تقاذف بعبارات وأطروحات في مسائل وطنية وفكرية خرجت عن طور الاحترام الفكري والوعي بمخاطر الخلاف، مما أشاع جواً مكفهراً من تبادل للتهم التي ما كان لها أن تظهر، ومما زاد في هذه الحال الشحن والتوتر المتبادل بين المصنفين من كيل ربما تجاوز حدود الاحتمال، بل لقد تجاوز إلى التشكيك في العقائد والتكفير معاذ الله ناهيك عن الاتهام بالارتماء في أحضان الغرب، كل هذا أسهم في اتساع الهوة، بل أوجد قطيعة معرفية واجتماعية.
لقد غالبت القيادة السياسية هذا الأمر أملا في عدل واعتدال، من خلال فتح قنوات للحوار من خلال مهرجان الجنادرية بأمل أن يكون الانفتاح على المتحدثين والمحاورين القادمين من خارج الوطن والتلاقح، موجبا لكسر الجمود والقطيعة، لكن حدث ما كان عكس المنتظر، ويبدو أن السماح باستمرار حال كهذه كان فيه مخاطرة.
وبما أن المسؤولية العظمي للقيادة السياسية وهي رمز وحدة الوطن، تفرض عليها لجم كل خروج مهدد، فقد كان القرار السياسي بإيجاد مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، ليكون مؤسسة رسمية لها دستورية العمل وفق إطار مؤسسي له قوانين ضابطة. وهنا فقد بات الحوار ضمن الإطار الدستوري أمراً له مقومات منهجية ومسار رسمي لا مجال لريبة ولا تشكيك في مآل ما سيبحث فيه. وهنا فإن القرار السياسي كان صمام الأمان لمسيرة الحوار، فتاريخنا الوطني فيه أمثلة على أن القرار السياسي هو حجر أساس في جدية المضي في العمل، فقرار إدخال شركات النفط في بدايات التأسيس كان بقرار سياسي، منع المعارضين من حرمان الوطن من الثروة التي حبا الله بها بلادنا ونحن في التنعم بها نعمة من الله، كما كان للبرق والهاتف، والقطار والإذاعة والتلفاز وتعليم البنات قرارات سياسية من ولي الأمر. والحق الدستوري لرأس الدولة لا منازع له، فهو يأتي بعد مداولة ومشاورة يليها العزم، وبرهنت النخب الفكرية التي تدوالت بدايات الحوار على رجاحة العقول وقوة القلوب في لجم شقة التباعد، ولعل رحمة الله قد أظلت لقاء مكة الثاني فكانت روح دار الندوة ودار ابن أبى الأرقم ماثلة في المخيلة للمشاركين والمشاركات، وفي حرم الله كان الأمان النفسي هو المنطلق للمنطق والاعتدال وممارسة المسئولية الفكرية والاجتماعية. لقد كسر الحاجز النفسي وتحاور ممثلونا العينة المثال الجميلة من مختلف التخصصات العلمية والمشارب المعرفية والتي لها تاج عز ديننا القويم الحنيف، والذي جعل الله بلادنا له مبعثاً ووحياً وقبلة واستقبالاً؟ وبما أن مسار الحوار قد توالى في الصعود بدعم وإصرار من سمو ولي العهد الأمير عبد الله وحدبه ، فإن الداعم لهذا هو دعم كل الوطن له ومباركته واستبشاره.
ولعل استمرار الانعقاد لحوارات بنات وأبناء الوطن في دار النصرة ومنطلق قيام دعوة التوحيد وأمامها قدوتنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، لهو فأل خير، فطيبة الطيبة فيها من الطيب ما يضفي المزيد من الشعور بالراحة النفسية. ولعل واجب الأمانة الفكرية والاجتماعية في هذا الإطار يقتضي مني الإسهام في الإدلاء برأي ورؤية وروية، مجتهداً ما وسعني الحال، فإن فاز اجتهادي ففضل من الله وإن بار ففي رحمة الله سعة بالغفران وفي بني وطني مطمع بقبول الشهادة والصلح على كره؟ وهنا بعض الاقتراحات للمتحاورين والقائمين على إدارة مركز الملك عبد العزيز :
* الابتعاد في الدعوة (الاختيار) للمشاركين عن أي تصنيفات، فنحن وطن موحد، وفي ظني أن مواطنينا حريصون على صون وحدة الوطن، ونحن بحمد الله جميع مواطني بلادنا مسلمون، ندين بالله بهذا ولا نقبل مزايدة، ولا يعلم ما في القلوب من اعتقاد إلا الله سبحانه وتعالى ولم يفتح أحد قلب أحد؟
* شمولية التمثيل لكل مناحي بلادنا شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً، ولعل في هذا المطلب ما يتيح المجال لتلاقي الناس والتعارف وتلمس تبادل المنافع من التزيد من الثقافة الشعبية التي لم ينجح الإعلام الرسمي من إشاعتها، باستثناء برنامج (طاش ما طاش) الذي بات نافذة شعبية لاكتشاف التنوع الثقافي والتراثي لوطننا؟
* مراعاة اختيار من له تأهيل وعلم ومعرفة واقتدار ووعي بسياسة الكلام، وفقه الواقع والضرورة والاستحسان، فهذا حق لإظهار ثمار مخرجات التعليم الذي كان من أجل استثمارات الوطن.
* إفساح المجال للأجيال الشابة، والتعامل معهم وفق معطيات التعولم والتلاقح الحضاري ومتطلبات الوعي بالمستجدات المتوالية في مجالات السياسة والاقتصاد والتجارة وعلوم الاتصال والبرمجيات.
أتمنى أن يكون نصف المشاركين من خريجي الجامعات في الأعوام الخمسة الماضية من جميع الجامعات ذكوراً وإناثاً من ذوي الرؤى الجلية الواضحة الصريحة.
وفي هذا تبادل للخبرات والمهارات مع من سبقهم من أجيال اكبر من سابقيهم في التخرج، كجيلي وأمثالي ممن هم في العقد الرابع والخامس والسادس؟
* فتح مجال الحوار وفق ضوابط أخلاقية البحث العلمي والجدل المنطقي بعيداً عن المزايدات.
* الإفصاح أن الاختلاف ليس عيبا، لكن القبول برأي الأكثرية (الأغلبية) هو نهج عدل، وفق مبدأ يد الله مع الجماعة. وهنا فمن كان قابلاً بهذه الآلية فهذا احتكام لا يسقط حقوق المواطنة، وشرف الانتماء للوطن.
* نشر ما يتم من مداولات (أوراق عمل) بحوث على موقع المركز الآلي الشبكة العنكبوتية (إنترنت) في يوم بدء اللقاء الثالث لكي تقطع الطرق على محاولات الدس الرخيص من بعض المواقع في الشبكة العنكبوتية. فالإفصاح والوضوح وقاية من الهذر والبهتان.
* وبما أن التعليم قد عاد ليكون عنصراً أساساً في الملتقى فإن جلب متخصصين ومتخصصات من وزارتي التربية والتعليم والعالي مطلب مهم للاستماع وتسجيل ما يثار لكي يتم التعامل مع ما يصدر من أطروحات (توصيات) باحترافية ومهنية فكرية عالية لعون ولي الأمر في صناعة القرار.
* لعل إعادة طرق الحوار للمناهج أمر في غاية الأهمية. ولا أجد مبرراً للاعتراض على تصويب وتطوير وتحديث المناهج الدراسية وطرق التدريس. فليس في هذا عيب وليس بفعل الخضوع للضغوط، وأيضا إذا الأمر كذلك فإن كان فيما يطلب منا تطويره فهذا حق من الأولى التقاطه وفق ما يتفق وثقافتنا ومثلنا وقيمنا الاجتماعية العليا التي ندين بالفضل فيها لديننا السمح الصالح للتطبيق في الزمان والمكان، وهو حجة علينا وليس تطبيقنا له هو الحجة؟ ولعل واقع الحال المعيش أن بعض المقررات وبالذات المواد الدينية في التعليم العام هي من القلة بما لا يتجاوز عشر أو عشرين صفحة مقسمة على فصلين لا يقلان عن نصف عام.
وهذه الصفحات سوف يتم الانتهاء منها ربما في اقل من فصل واحد؟ وهنا فليس أمام المعلمين والمعلمات سوى إفراز قناعات وربما فتاوى الغلاة بما يشوه منطق ومضمون المقرر باجتهادات قد لا تخلو من التطرف، ولو كان المقرر على قدر الزمن للفصل الدراسي لكان في الأمر خير اكبر فكرا وممارسة؟ في ظني أن الإقرار أن مناهجنا في التعليم العام المدني، أي المدارس التي تشرف عليها وزارة التربية والتعلم غالبها وفي شتي التخصصات لم تعد تلبي متطلبات الواقع، وأظن ان افتقادها لمهارات تدريس التفكير هي السمة الطاغية عليها، ولعل كتاب الدكتور جودت احمد سعادة الخبير الفلسطيني الذي علم في جامعات الوطن العربي من اجمل ما يمكن الإشارة إليه، فقد بحث المهارات المطلوبة للنهوض بالتعليم وهي:
مهارات التفكير الإبداعي - التفكير الناقد - حل المشكلات - مهارة التنبؤ - مهارة التعميم - إصدار الأحكام - طرح الأسئلة - التصنيف - التتابع - تدوين الملاحظات - تحديد الأولويات - التمييز - الاستنتاج - المقارنة - الاستقراء - التفكير بانتظام - تحمل المسئولية - التذكر - الوصف - الإصغاء - تحديد العلاقة بين السبب والنتيجة - إدارة الوقت والأزمات - عرض المعلومات.
فكل هذه المهارات لدينا فيها فقر مدقع بين المعلمين والمعلمات قبل الطلاب والطالبات. هذا في مجال التعليم المدني العام الذي يعلم الغالبية العظمى من الشعب، أما المدارس - المعاهد العلمية فهي في حاجة إلى تطوير يمكنها إلى جانب المهارات السابقة من فهم واستيعاب ما يدور على أرض الواقع المعيش حتى لا تبقى في واد والناس في آخر وبالذات عند مباشرة القضاء وعدم الإلمام بمستجدات التعاملات في شتى الحقول.
|