تستدعي بعض المواقف الذاكرة لتهمي بما تختزنه من صور لمفارقات بين المراحل التي مضت كان فيها الفرد يجد الوظيفة (تنتظره) بمجرد أن يطرق بابها، وله تتاح خيارات عديدة. كان هناك توازن بين العرض والطلب، فيما ازدادت حدَّة المفارقة بازدياد أعداد الحاصلين على (درجات) متفاوتة ومختلفة في مراحل التعليم واختصاصاته...
فكلَّما ازدادت أعداد الخريجين في الجامعات والثانويات والمعاهد وازدادت الدبلومات بل الدكتوراة والماجستير (قلَّ) (عرض) الوظائف وضاق مجالها وتقلَّص المتاح منها...
من هنا بدأ التوجُّه إلى حصر (عدد) ما يُتاح من الوظائف لغير المواطنين، وإيقافها عليهم، والإبقاء على الخبرات النادرة والكفاءات المميزة من أولئك وفق الحاجة إليها كي تملأ مكانها في العمل إلى حين يتاح للمواطن أن يحلَّ فيها ويقوم بما تحتاجه من نوع وكيفية وقيَميَّة الخبرات ثمَّ ازدادت الحاجة للعمل بين المواطنين لازدياد عددهم واتساع مجالات الحاجة للعمل لتوفير المأوى والغذاء والكساء مع تطور المجتمع ومواكبته لآلية حركة التغير السكاني والمعاشي والتعليمي ومن ثمَّ الوظيفي... ولم تعد الوظائف متاحة على (الأرصفة) ولا (معروضة) للرَّغبة... تنتظر من يطرقها...، بل غدت أبوابها ذات متاريس، وطُرُقها ذات مقاييس...
لذا نشأت الحاجة إلى أن يقدم أصحاب رؤوس الأموال من المواطنين (أموالهم) لإنشاء مؤسسات ذات أهداف (خدَمية) وبنائية لا تقف أدوارها عند حدود تنمية رأس المال الفردي بدعم المشاريع الرسمية لدعم الاقتصاد الوطني وتحريك سوق العمل بل لإتاحة مجال لأن (توظِّف) المواطن، وتحقق بذلك أهداف الاستيعاب على صعيدَيْ الفائدتين -الوطن- المواطن..
وبمجرد أن بدأت هذه الفئات فتح الأقفال عن أرصدتها، وبثّها في (سوق) التفاعل عطاء وأخذاً ظهرت (المنافسات) الجريئة والإيجابية (فيمن) يتقن مواجهة الحاجة ويسدِّدها وفيمن يأخذ الشكل الخارجي لتسديدها!...
وبازدياد الحاجة إلى الأخذ بأيدي (المواطنين) ليجدوا العمل النافع ازدادت المفارقات...
فمن حيث وسَّعت (الحكومة) من فرص العمل وحثَّت عليه، وضعت له ضوابط ربطتها بوزارتي الخدمة المدنية، والعمل والشؤون الاجتماعية فالأولى مناطة بها (قوانين التوظيف العام)، والأخرى (مناطة بها قوانين العمل الخاص). على الأقل في المفهوم العمومي لدى المواطن...
وأُطلق للمؤسسات حرية اليد في وضع المواطن المناسب في المكان المناسب الذي يعود للمؤسسات بنتائج إيجابية... وراقبت الوزارتان مدى ما يتحقق من المواطنة في المؤسسات العامة المجتمعية...
غير أنَّ هناك من له من الوسائل المختلفة ما يحدُ من (تنفيذ) هذا التطلع، والخلوص من كثير من بنوده بشيء من الذكاء.
ولديَّ أنموذجان إيجابيان في التعامل مع قضية فرص العمل للمواطنة في القطاع الخاص...
كما لديَّ أنموذج سالب في (واقعته)، وإن ظهر بتبريرات في شكلها الخارجي إيجابية لأصحابها في شأن القضية ذاتها.
والنماذج الثلاثة وردتني للكتابة عنها بالأدلة والوثائق: فالأنموذج المثالي الأول ما أخذته على عاتقها قناة (المجد) التي تصارع بجديتها وجودة برامجها غثاء الفضائيات من أمر توظيف خريجي المعهد المهني ومن لديهم خبرات في مجالات الصيانة من السعوديين وتمنحهم وسائل العيش اليسيرة، وتمكنهم من الوظيفة وتمنحهم الثقة وتزجَّهم في مواجهة متطلبات الحاجة فيما يتعلق بالامدادات الخاصة بإيصال الخدمة وصيانتها للمرافق العامة والخاصة والدور والقصور... فتجد الشباب مقبلين بحماس وثقة للعمل وإن كان في شكله اليسير إلا أنَّه بوتقة للصَّهر والخبرة وتدريب المهارة.
والنموذج الثاني بعض المؤسسات ذات المساهمات الكبرى في السوق التجاري التي توظف الشباب من المواطنين بمجرد أن يتقدموا بالرغبة في العمل لديها شعارها (مؤهلك أن تكون مواطناً) وتقوم بتدريبهم وبتزويدهم بخصائص العمل من المعلومات والخبرات والأداءات ومن هذه الجهات كما ذكر لي: (باريس غالري) إذ تضطلع بهذه المهمة إدارة فاضلة على رأس العمل لها من الهمَّة ما توظفها لتحقيق شرط المواطنة في العمل ويشمل هذا النموذج مجموعات أخرى، إذ بتنا نرى الشباب السعودي يعمل بهمَّة في مواقع لم نكن نراه فيها من قبل كوظائف الأمن، ونجده يقف خلف أجهزة المحاسبة في المحلات التجارية الكبرى، (كاليورومارشيه) و(التميمي) وفي مجمَّعات (كالعثيم) و(الناصر) والمؤسسات العارضة في (الفيصلية) و... ومجموعة الشَّايع والسدحان... وسواها كبرنامج عبداللطيف جميل للتأهيل، وكثير من البنوك و... و... ممَّا لا يتسع له المجال.
أمَّا النموذج الثالث السالب فيتبدى في تجربة الشباب الذين يتقدمون للعمل بخبراتهم وفق ما تعلنه بعض الجهات في القطاع الخاص من شروط حتى إذا ما تقدموا بخبراتهم التي تطابق المطلوب، لم تتح لهم فرص الدخول في المفاضلة ويُعتذر لهم دون وجود من يراقب ما تمَّ نشره ومن تقدم للوظيفة وفق الشروط التي تمَّ نشرها ومعرفة معايير الرفض، ولعل مثالاً واحداً على ذلك تلقيته للشاب (حسن بن سعيد العرجاني) الذي تقدم وفق إعلان يطلب لوظيفة ناسخ عربي إنجليزي كانت الشروط المحددة لها (دبلوم نسخ) وخبرة لمدة سنتين. ودون إتاحة فرصة له للمقابلة الشخصية محور المفاضلة بعد شهادات الخبرة تمَّ الاعتذار له وكان السبب محور الاعتذار أنَّ شرط الوظيفة خبرة لمدة سنتين فيما هو صاحب خبرة مدتها ثماني سنوات!!
ولئن كان راتب الوظيفة أقل من خبرة الشاب حسن إلاَّ أنه أبدى استعداداً للتنازل عن هذا الفارق المادي. وكان الأجدر بالجهة الطالبة للوظيفة كسب مواطن له خبرة وقدرة إلاَّ أنه أغلق أمامه باعتذار ورقي باب الوظيفة التي يستحقها!!
ولا يزال سوق العمل يزدحم ويشحن بين عرض ضيق وطلب متسع...
ولا تزال النماذج الإيجابية محور تقدير وتشجيع وتطلُّع بينما ينهض أمل في أن تناط جميع الإعلانات للتوظيف بإحدى الوزارتين لحصر حدود الخلوص من شرط المواطنة...
ذلك لأنَّ المجتمعات الإنسانية جميعها هدفها توفير الحياة لمواطني مجتمعاتها وأوَّل سلم الحياة الطيبة توفير مصدر الرِّزق وهو الوظيفة.
|