ألمحت في مقال الأسبوع الماضي بأن حلمي بمعاودة الحج، بعد انقطاع عنه دام عدة عقود.. أخذ يتلاشى.. وابتعد بي عن بوابة تحقيق الحلم الأكبر.. إلى لَمعَانٍ من سراب الخيال.. حتى وفقني الله بفضله ثم بعزيمة عدد من أفراد أسرتي للحج بجانبي وجانب والدتهم.. وهو ما لم يتح من قبل.
وهذه مشيئة الله وأقداره التي يربطها بأسبابها.. فله جل وعلا الحمد والشكر ونسأله لنا ولجميع إخواننا المسلمين أن يجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً وأن يكون بفضله ورحمته، قد أعاد الجميع إلى أوطانهم وأهليهم (كما ولدتهم أمهاتهم..) أنقياء من الذنوب والآثام.
والحق أنه لما صَحَّتْ منا العزيمة- بتوافر وتضافر أسبابها - أصبح كل صعب سهلاً وكل عسير صار يسيرا.. وهو ما يوحي به بيت الشعر الذي كنا نردده أيام دراستنا لعلوم النحو:
لأَسْتَسْهِلنَّ الصعبَ أو أدركَ المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
فكل عمل كبير من أمور الدين أو الدنيا يحتاج إلى جهاد كبير مع النفس طلباً لمرضاة الله، أو طمعاً في أمر دنيوي يستحق العناء والمجاهدة..!
***
نعم.. لقد أصبح الزحام الشديد.. والتدافع الخطير أثناء أداء بعض المناسك.. كرمي الجمار أول دخول الوقت المشروع.. وكالطواف بمحاذاة الكعبة الشريفة.. والسعي في بطن الوادي من المسعى.. أصبحت عوامل فقْدٍ وسلب لمقومات سلامة العبادة أو كمالها.. والتي أهمها (الخشوع) و(الطمأنينة) في أداء أعمال العبادة فالخشوع هو روح العبادة، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (1-2-3) المؤمنون.
فأي خشوع، وأي طمأنينة، وأي بُعد عن اللغو، وأجسام الرجال والنساء تَتَخَلّل الصفوف المتراصة جِيْئَةً وذهوباً.. كما يتخلل المشط خصلاتِ الشعر..؟!
***
واقع الحال إن حكومة المملكة العربية السعودية، ممثلة في المسؤولين عن الحج، ليست مسؤولة عن تخلف الوعي في حجاج قدموا من جميع قارات الأرض.. ولكن الحكومات الإسلامية وغير الإسلامية التي يأتي الحجاج المسلمون من بلادهم هي المسؤولة عن هذا الضعف في الوعي الديني والإنساني.. وكان الواجب عليها أن تعطي حجاجها معرفةً وتوعيةً وتوجيهاً بما يجب عليهم من تعامل إسلامي أخوي كريم مع جميع إخوانهم المسلمين في المسجد الحرام، وفي المسعى، وفي رمي الجمار وفي جميع مناسك الحج.
***
والحق أن خدمات الحج التي وفَّرتها حكومة المملكة لملايين المسلمين في كل عام.. ومنذ عشرات السنين، هي خدمات لا مزيد عليها.. اللهم إلا بشيء من التعديلات في الطرقات والمسالك إلى بعض المشاعر.
وأضرب لذلك مثالاً واحداً عشته ورفقائي في السيارة.. فقد توجهنا من (منى) إلى الحرم لطواف الإفاضة عصراً.. ولم نستطع الوصول إلى الحرم إلا بعد أربع ساعات كاملة.. وبعد أن أخذ التعب والإرهاق منا ومن غيرنا مأخذه..
وفي طريق العودة إلى (منى) سلكنا الطريق الأوسع والأرحب (طريق الملك فهد) الذي قالوا عنه إنه لا يتجاوز الـ(1600م) وقد مكثنا فيه ساعتين وربع الساعة..!
هذا الوضع يحتاج إلى اعادة النظر في أسبابه.. وعلاجها بالقدر الممكن والمتاح.. مادياً وتنظيمياً وإن لجنة الحج العليا لفاعلة إن شاء الله.
هذا مع علمنا وقناعة الجميع بأن حكومتنا - أعانها الله - تستفيد كل عام من تجربتها في حج العام الذي قبله.. فتصلح ما يستدعي الإصلاح وتطور ما تدعو الحاجة إلى تطويره.. من خلال تجديد أساليبها الإدارية.. وتطبيقاتها الميدانية.. وفق ما تفرزه دراسة ما بعد الحج.
وحسب الدولة السعودية مجداً وشرفاً تاريخياً.. أنها الدولة الوحيدة في العالم التي ترعى، وتنظم، وتدير، أعظم وأجل وأكبر مؤتمر في العالم.. يقام سنوياً على أرض مكة - شرفها الله - ضمن مساحات محدودة.. وفي أيام معدودة إنه (المؤتمر الإسلامي العالمي).
ولو أن كل دولة إسلامية التزمت بحصتها من حجاج بلادها وفق ما اتفقت عليه مع حكومة المملكة.. منذ سنوات يساعد ذلك في تخفيف الزحام وتهيئة أجواء أكثر راحة وطمأنينة لجميع حجاج بيت الله الحرام.. تقبل الله من الجميع صالح أعمالهم.
يتبع.. |