سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
طالعتنا الجزيرة بعددها رقم 11345 والصادر يوم الثلاثاء الموافق 25-8- 1424هـ بتعقيب مطوَّل من الأخ تركي القهيدان على المهندس عبدالعزيز السحيباني، وقال في مقدمة ذلك التعقيب ما نصُّه: (اليوم، وبعد أن قَدَّمْتُ أدلَّة دامغة في تحقيقي الأخير عن عين ضارج، وأفرَدْتُ حلقات في صحيفة الرياض، وفي كتابي: القصيم.. آثار وحضارة، والذي حسمتُ فيه معركة الباحثين، ونقلت عين ضارج نقلاً تأديبياً بعد أن أغرقت القصيم بمياهها إلى مربضها الحقيقي ما بين اليمن والمدينة، وثَبَّتُّها بالأدلة والبراهين، يأتي عبدالعزيز بن محمد السحيباني في جريدة الجميع جريدة الجزيرة بعددها رقم 11295 وتاريخ 4-7-1424هـ ليزُفَّ للقرَّاء تعقيبه عليَّ في صفحة عزيزتي الجزيرة بعنوان: معلقة امرئ القيس.. فيلم سينمائي عن القصيم.. إلخ) وكذا ما كتبه في نفس الجريدة بعددها رقم 11455 في 17-12-1424هـ ورقم 11456 في 18- 12-1424هـ تحت عنوان (أقول): قال ابن كثير وياقوت وابن منظور. ويردُّ عليَّ المعلومة متواترةً من الحميدي، والقصة عليها استدراكات، وامرؤ القيس كان يعتقد.. وإحقاقاً للحق سأُورد للقرَّاء الكرام مع وجهة نظري بما قاله الأخ تركي نصَّ ما قاله ابن كثير وياقوت وابن منظور وأترك الحكم للقارئ، وسأنقل النص الحرفي لما دوَّنَتْهُ كتب أولئك، فأقول مستعيناً بالله:
1- قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية صفحة 223 من الجزء الثاني: (ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا: يا رسول الله، لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس، قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا إلى أصول طلح وسمر؛ ليموت كلُّ رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رَمَق إذا راكب يوضع على بعير، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
ولمَّا رأَتْ أنَّ الشريعةَ همُّها
وأنَّ البياضَ من فَرائصِها دَامِي
تَيَمَّمتِ العينَ التي عندَ ضَارِجٍ
يَفِيءُ عليها الظِّلُّ عرمضُهَا طَامِي
فقال الراكب: مَن يقول هذا الشعر؟ وقد رأى ما بنا من الجهد، قال: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو خمسين ذراعاً، فحَبَوْنَا إليه على الرُّكَب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس: عليه العرمض يفيء عليه الظل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاكَ رجلٌ مذكورٌ في الدُّنيا منسِيٌّ في الآخرةِ، شريفٌ في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقُودُهم إلى النار) انتهى.
هل تضمَّن هذا نصاً على أن العين موجودة بين الحجاز واليمن؟
2- قال ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان الجزء الثالث ص 450 (ضَارِج: بعد الألف راء مكسورة ثم جيم، يُقال: ضرجه أي شقَّه، فهو ضارج أي مشقوق، فاعل بمعنى مفعول، حدَّث إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أشياخه أنه أقبل قوم من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فضلوا الطريق ووقعوا على غيرها، ومكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطلح، حتى أَيِسُوا من الحياة، إذا أقبل راكب على بعير له فأنشد بعضهم:
ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيمَّمت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي |
والعرمض: الطحلب الذي على الماء. فقال لهم الراكب، وقد علم ما هم عليه من الجهد: مَن يقول هذا؟ قالوا: امرؤ القيس. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم، وأشار إليه. فجثوا على رُكَبِهم، فإذا ماء عذب وعليه العرمض والظل يفيء عليه، فشربوا منه رِيَّهم وحملوا منه ما اكْتَفَوْا به حتى بلغوا الماء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس، وأنشدوه الشعر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك رجلٌ مذكورٌ في الدُّنيا شريفٌ فيها، منسيٌّ في الآخرة خاملٌ فيها، يجيء يومَ القيامةِ وبيدهِ لواءُ الشُّعراء إلى النار. قُلْتُ: هذا من أشهر الأخبار، إلا أن أبا عبيد السكوني قال: إن ضارجاً أرض سبخة مشرفة على بارق. وبارق، كما ذكرنا، قرب الكوفة، وهذا حيز بين اليمن والمدينة، وليس له مخرج إلا أن تكون هذه غير تلك. وقال نصر: ضارج من النقي ماء ونخل لبني سعد بين زيد بن مناة، وهي الآن للرباب، وقيل: لبني الصيداء من بني أسد، بينهم وبين بني سبيع فخذ من حنظلة. وقال آخر:
وقُلْتُ تبين هل ترى بين ضارج
ونهي الأكف صارخاً غير أعجما؟) انتهى. |
مثل سابقه هل تضمن هذا النص تحديداً لموقع العين؟ إنَّ مَنْ يُعيد قراءة هذا النص ويتمعَّن فيه جيِّداً يجد أن المؤلف أورد لنا اختلافاً حول موقع هذا المُسمَّى، وسبق أن قُلْتُ لك في تعقيبي السابق ما نصُّه: (ومع اتِّفاقي معك ومع غيرك.. إلخ). وقوله: (هذا من أشهر الأخبار) يدل دلالة واضحة لكل قارئ أن هناك أقوالاً مشهورة أخرى حول ذلك لم يوردها المؤلف لنا، كما أن الحديث الوارد في هذه القصة رُوِيَ بعدة صيغ ولم تُذكر فيها هذه القصة، بل كانت كلها تختص بامرئ القيس فقط؛ منها ما يلي:
أ- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امرؤُ القيسِ صاحبُ لواءِ الشُّعراءِ إلى النار...).
ب- عن أبي هريرة قال: ذُكِرَ امرؤ القيس للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ذلكَ رجلٌ مذكورٌ في الدُّنيا، منسيٌّ في الآخرة، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار).
ج- وجاء عن أبي هريرة بلفظٍ آخرَ هو: (امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار؛ لأنه أوَّل مَن أحكم قوافيها...).
ومَن أراد الاستزادة من ذلك فعليه بالرجوع إلى كتاب: معجم بلاد القصيم لفضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الجزء الرابع منه من صفحة (1382 وحتى 1402)؛ فقد أورد هذه الأحاديث وعلَّق عليها، ولولا خشية الإطالة لنقَلْتُها للقارئ الكريم. فهل جَهِلَ مَن روى تلك الأحاديث قصة هؤلاء القوم أو أسقطوها من الحديث، ولماذا؟ الحكم في ذلك يستلزم الرجوع إلى أهل الحديث؛ لنعرف ذلك، ونعرف صحة تلك القصة والحديث، وهل ورد تحديد دقيق لموقع تلك العين، ومن أي موقع من اليمن أتى ذلك الوفد، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم وقتها في مكة أو في المدينة المنورة؛ حيث إن لليمن طرقاً أخرى، أو أن المراد من إيرادها هو ذكر حالة امرئ القيس فقط.
3- قال ابن منظور في كتابه لسان العرب في الجزء الثامن منه صفحة 42- 43 ما نصُّه: (وضارج: اسم موضع معروف، قال امرؤ القيس:
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي |
قال ابن بري: ذكر النحاس أن الرواية في البيت: يفيء عليها الطلح. وروى بإسناد ذكره أنه وَفَد قومٌ من اليمن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر. فقال: وكيف ذلك؟ قالوا: أقبلنا نريدك، فضللنا الطريق، فبقينا ثلاثاً بغير ماء، فاستظللنا بالطلح والسمر، فأقبل راكب متلثِّم بعمامة، وتمثَّل رجلٌ بيتين، وهما:
ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الطلح عرمضها طامي |
فقال الراكب: مَن يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم. قال فجثونا على الرُّكَب إلى ماءٍ كما ذكر، وعليه العرمض يفيء عليه الطلح، فشربنا رِيَّنا، وحملنا ما يكفينا ويبلغنا الطريق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاكَ رجلٌ مذكورٌ في الدنيا شريفٌ فيها، منسيٌّ في الآخرة خاملٌ فيها، يجيءُ يوم القيامة معه لواءُ الشُّعراء إلى النار). وقوله:
ولما رأت أن الشريعة همها
الشريعة: مورد الماء الذي تشرع فيه الدواب، وهمها: طلبها، والضمير في رأت للحمر، يُريد أن الحمر لما أرادت شريعة الماء وخافت على أنفسها من الرماة أن تَدْمَى فرائصها من سهامهم، عدلت إلى ضارج؛ لعدم الرماة على العين التي فيه.
وضارج: موضع في بلاد بني عبس. والعرمض: الطحلب، وطامي: مرتفع) انتهى.
هل حدَّد ابن منظور الموقع الذي ذكره، أم أنه وقف عند قوله: موقع معروف فقط؟ ثم ساق القصة التي ساقها غيره.
فسيجد القارئ لذلك التعقيب أنه أسلوب جدلي، وما هكذا يكون البحث والنقاش، وربما ستقول: وكيف توصَّلْتَ إلى هذا؟ فأقول لك: بدايةً، لم أكن لأكْتُبَ تعليقاً على ذلك لولا أني وجدْتُكَ كرَّرت (الفراج) عدة مرات مُوهماً القرَّاء أنك أقنعتني بما كتبْتَهُ في جريدة الرياض. أبداً، لم أكن لأقتنع بذلك لا تكبُّراً ولا تجبُّراً، ولكن لأنِّي ردَدْتُ عليك مُفَصَّلاً بجريدة الجزيرة بعددها رقم 11273 وتاريخ 12-6-1424هـ، وللأسباب الآتية:
أولاً: تقول: الشاعر يقول: (يفيء عليها الظل)، وأن تلك العين في جبل وقويطير الشقة، في تل باتجاه الغرب؛ مما ينفي الصفة عنه. هذا مفهوم قولك من ردِّك الأول على السحيباني. وأقول لك: إن الفيء هو أن يأتي الظل بعد زوال الشمس، ويتكون من أي شيء له جسم، حتى ولو كان عَصًا مركوزة في الأرض فإن له فيئاً؛ ولذلك تجد الناس في القديم يعرفون مواقيت الصلاة (صلاة الظهر والعصر) بانكسار الفيء، ولم يذهبوا ليجلسوا عند جبل حتى يفيء عليهم ظل الجبل فيُصَلُّوا، بل الفيء يأتي من أي جسم له كتلة يتكون منها الظل حين زوال الشمس. والعين (عين ضارج) يفيء عليها ظل الأشجار التي كانت بقربها. وخلاصة ذلك أن الفيء لا يلزم منه وجود الجبل، فأنت بمفهوم ردِّك الأول تقول: إن الفيء مقرون بوجود الجبل الذي تقع فيه العين. وهذا خلاف المُتعارَف عليه من وجود الفيء وأسبابه. وحفظاً للحق، فإني أجدُك بدَأْتَ في الدخول في الطريق الصحيح عندما ذكرْتَ أنه سبق لك أن قُلْتَ: إنه ليس من المُستبعَد أن يكون المقصود بالفيء: أي فيء النباتات المحيطة بالعين.
ثانياً: تقول: إن كبار السن في المنطقة يقولون: إن ضاري هو الشقة، وأقول لك: هذا وهم؛ فضاري موجود موقعه، وسبق أن قلتُ لك في ردِّي عليك بعدد الجزيرة رقم 11273 وتاريخ 12-5-1424هـ بأني وقفتُ وإياك على الموقع، فقلتَ لي: إن غيري أوقفك على هذا الموقع، وأكملتَ بالردِّ بأن الدلالة على الموقع من غيري لك على نفس الموقع يؤكد الصحة.
ثالثاً: حدَّثْتُكَ في ردِّي أن المعلومة متوارثة لا مستجدَّة منذ ما يقارب أكثر من أربعمائة سنة نقلاً بين أبناء مَن أسَّس بلدة الشقة، ثم تأتي باستشهاد عن متأخِّرين لم تُفْصِح عن أدلَّتهم.
رابعاً: عدم وجود أثر للعين محل النقاش مثلها مثل غيرها، فكم عيناً اندثرت وذهب أثرها؟ بل وكم من بلدة كاملة اندثرت وذهبت آثارها، ومنها بلدة الشقة الأولى (الهدامة) وحتى الآن؟! وأنا شخصياً وغيري من أهل الشقة يعرفون آباراً كانت وحتى قبل خمس وثلاثين سنة فقط مصادر للمياه بالبلدة، وأصبحت الآن مدفونة تحت الرمال، وليس لها ولا لمزارعها أي أثر يُذْكَر.
خامساً:
أ- تُجادل السحيباني عن جهة قدوم السحاب على المنطقة عندما ذكر أنه يأتي من الشمال الغربي. وأقول: السحاب له عدة اتجاهات بحسب الوقت والريح، ويكفي متابعة نشرات الأحوال الجوية لعام واحد وسترى كيف يأتي السحاب لمنطقة القصيم، وستعرف ذلك جيداً، خاصة وأن مصلحة الأرصاد الجوية لم تُقَصِّر في ذلك؛ حيث تعطينا المعلومة حيَّةً ومن خلال الأقمار الصناعية، وفي ذلك بلاغ مبين.
ب- أقول: هناك مغارب، وليس مغرباً واحداً أو مغربين فقط، وذلك بنص القرآن الكريم، وخُذِ الآيات الدالة على ذلك، وهي قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (9) سورة المُزَّمِّل، وقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (17) سورة الرحمن، وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} (40) سورة المعارج. وما دام ثبت بنص القرآن الكريم تعدُّد المشارق والمغارب كما في الآيات السابقة فيلزم والحالة هذه أن تُحَدِّد للقراء يوم وشهر وسنة مقولة الشاعر لذلك البيتين؛ ليمكن البحث في ذلك بدلاً من الدخول في جدال؛ لأن الوضع وبموجب الآيات السابقة يجعل ما بين الشمال والجنوب مغرباً حسب فصول السنة.
سادساً: من أسلوبك الجدلي قولك: (وقد نقلتها نقلاً تأديبياً بعد أن أغرقت مياهها القصيم)، أقول لك يا أخي الكريم: النقل التأديبي يعني نقل الشيء من موقعه الصحيح إلى ما هو دون ذلك، أو بعبارة أوضح: هو النقل من موطن القوة إلى موطن الضعف.
سابعاً:
أ- من جدليَّاتك أنك تستعرض جزءاً من الردّ وتترك الأجزاء الأخرى. ومن ذلك قولك: (ردِّي على الفراج) وكرَّرْتَها مرَّاتٍ. وهذا يحتمل على ردِّي عليك كما يحتمل ردَّك على كتابتي الأولى. فمن خلال ردِّي أو بالأصح تعقيبي على ما نشرْتَهُ في جريدة الرياض أنِّي قُلْتُ ما نصُّه: (ومع اتِّفاقي معك ومع غيرك بأن هناك تعدُّداً لمواقع تحمل نفس الاسم، إلا أن القرائن متى تكاثرت تعاضدت، ومتى تعاضدت استقر الأخذ بها... ومعلوم أن الإثبات مُقدَّم على النفي شرعاً) انتهى. فلم تتطرَّقْ لذلك.
ب- دائماً في ردودك تحاول أن تُلزم القارئ بأن كتابك هو الحق، وأن الرجوع إليه هو الصواب، لماذا؟! وما مصير كُتب مَن سبق؟ ثم هل اختلافك مع غيرك ينفي الحقيقة؟ وقد أعطيتُك إشارةً إلى ذلك في تعقيبي عليك سابقاً بما نصُّه: (ج- قولك: لا أتَّفق مع العبودي وأيضاً مع الوشمي فيما ذهبا إليه.. أقول: لا يلزم من عدمه العدم.. إلخ). أليس من الأجدى والأروع ومن الورع أن لا يُزَكِّي المرء نفسه، وأن يترك الحُكْم للآخرين؟! حيث إن شهادة المرء لنفسه غير مقبولة البتة.
ثامناً: ما دُمْتَ تُكَرِّرُ أن هناك عدة مواضع في نفس المسمَّى فكيف حكَمْتَ بالنقل التأديبي إلى الأبد؟!
تاسعاً: كيف تكوَّنت بحيرة الملح بالشقة، والتي لا تبعد أكثر من 1.5 كم من ضاري؟ ومن أين يتم تغذيتها؟ ولماذا نشفت المياه منها شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تكاد تكون نسياً منسياً بدلاً من كونها بحيرة؟ ومثلها حال البشمة ونخيلها التي عدمت الآن.
عاشراً: عبدالله الشايع قال في كتابه: نظرات في معاجم البلدان، الجزء الثاني صفحة 258 منه ما نصُّه: (ولكل ما تقدَّم؛ فإني أميل إلى القول بأن ضارجاً الذي عناه امرؤ القيس هو ضاري الذي تكلم عنه أستاذنا العبودي). وآمُلُ من القرَّاء الرجوع إلى ذلك.
حادي عشر: ما دام الأوَّلون والمتأخِّرون والمعاصرون اختلفوا حول ذلك فهل نزل وحي بتحديد الموقع الدقيق لذلك أو عُثِرَ على كُتب لم يَعْثُر عليها مَن سبقنا من الأقدمين تفيد بذلك؟ فكل ما اطَّلعنا عليه حول ذلك لم يقطع بشيء محدد بعينه، ولكنه التواتر، وكلُّ مَن كتب حول ذلك أبدى رأيه فقط وترك الحُكْم للقرَّاء. وهذا طلب بإحالتنا إلى الكتاب القديم الصريح بتحديد موقع تلك العين بالحجاز بحدودها وحالها وأحوالها، وأنه لا يوجد غيرها ولا مثلها؛ لنستفيد حيث الحق ضالة المؤمن، على ألاَّ تكون الإحالة إلى كتابك.
ثاني عشر: أنت بحديثك تتحدث عن نفي وجود عين يمكن مشاهدتها في الوقت الحاضر، هكذا جاء أسلوبك، ولكنْ ليعلمْ القارئُ أن الحديث يدور حول عين جاهلية اندثرت كما اندثر غيرها من العيون الواقعة عنها (جنوباً وغرباً وشرقاً؛ مثل: عين الزرقا وعيون الجواء وعيون الأسياح)؛ حيث تحوَّلت تلك العيون إلى أثر بعد عين. وأهديك ما هو جديد عليك فأقول لك: إن هناك سيحاً نبع في بلدة الشقة السفلى، وذلك عندما بدأ الفاضل (الأردح) بحفر بئر لسُقيا الأهالي هناك، وفي الموقع المسمَّى العدانة بالشقة منذ أكثر من خمسين عاماً؛ حيث تفجَّرت تلك العين بعد بدء الحفر بشيء قليل، وساحت مياهها على سطح الأرض؛ مما جعلها تحمل اسم (السيح)، وكان الحفر فيها بآلات بدائية جداً، وهذه العين لا تَبْعُدُ عن الموقع مدار البحث بأكثر من اثنين كيلو متر، فلا تَعْجَبْ.
ثالث عشر: من أسلوب البحث العلمي أن يأتي الباحث بجميع ما يتحصَّل عليه مما يتعلق بالبحث، سواء أكانت له أو عليه. وأنت تذكر ردَّك ولا تأتي بالردِّ الذي يُخالفه!.
رابع عشر:
أ- أجدُكَ يا أخ تركي تدور دائماً في حلقة واحدة لا تستطيع الخروج منها، ذلك لأن كل قارئ يعلم المصادر التي تأخذ منها، والتي لا يستطيع أحد احتكارها؛ حيث إنها مؤلفات منشورة مشهورة يطَّلع عليها كل راغب في ذلك، وقد قلتُ لك في تعقيبي السابق عن هذا: (بأنك لم تأتِ بجديد مفيد).
ب- طُرُق اليمن مع الحجاز معلومة منذ القدم، ويكفي ذكرها بالقرآن الكريم {رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ}. وكذا ما يُوجد من علامات شاهدة الآن رآها كلُّ مَن سلك طريق الجنوب مع الطائف. أما إذا كان أولئك القوم التائهون قدموا من الجهة الشرقية من اليمن مما يلي حضرموت وساروا بطريق مستقيم، فمن الطبيعي وُرودهم الأراضي النجدية.
خامس عشر: عندك تناقضات عجيبة يا أخي الكريم، ومنها قولك في الفقرة السابعة عشرة وفي العمود الثالث منه: (وما حدَّدْتُه بأن العمر التقريبي لها -أي للأشجار المتحجرة بالشقة- 270 مليون سنة)، ثم تأتي في العمود الرابع وتقول: ( وسألتُه عن العمر التقريبي لها فأكَّد أنه 270 مليون سنة)، فهل أنت الذي حدَّد العمر التقريبي لهذه الأشجار أو الدكتور اللعبون؟ والكلُّ يعرف أن الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً، فأهل الاختصاص هم المرجع، وهم الذين يُحدِّدون أعمار تلك الأشجار؛ إذ كيف تسأل عن شيء تقول إنك تعرفه؟!
سادس عشر: أوردتَ في العمود الرابع من الحلقة الثانية من ردِّك على السحيباني جزءاً من تعقيبي في عدد الجزيرة رقم 11373 في 12 جمادى الآخرة 1424هـ، ونصُّ ما أورَدْتَهُ ما يلي: (4- الذي قاله الفراج ما نصُّه: إن ضارجاً ماء لعبس، ومعلوم سكن بني عبس للجواء. 5- من المعلوم أيضاً أن القبائل في نجد وغيرها كانت قبائل رُحَّلاً)، ثم قُلْتَ: (انتهى كلامُه)، وعلَّقْتَ على ذلك بقولك: (قلتُ: أليس هذا تناقضاً؟! أم أنَّ القبائل كلها كانت رُحَّلاً ما عدا عبساً في القصيم). أقول: لا تَنْهَ عن خُلُق وتأتيَ مثله؛ لقد اختزلتَ الكلام وأخذتَ جزئيةً منه وتركتَ باقيه. وللقرَّاء الأفاضل أقول: هاكم ما قلتُهُ حرفياً: (5- من المعلوم أيضاً أن القبائل في نجد وغيرها كانت قبائل رُحَّلاً، ومَن يبحث في حياتها يَجِدْ كم موقعاً سكنَتْهُ هذه القبيلة أو تلك بحثاً عن الماء والكلأ. ومَن استوطن منها في موقع معين فإنها تشد الرحال إلى حيث الكلأ متى أجدبت مواطنها، ولو بالتحالف مع أخرى، ثم تعود لموطنها بعد ذلك، وحتى عهد قريب، وهذا شأنها حتى تم توحيد هذه البلاد على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله- حيث بدأ بتوطين البادية). وفي نفس العمود وقبل هذه الفقرة تقول: (وعلى فرض أن امرأ القيس وُلد وعاش طول حياته في الشقة، فلا يمنع أن يقول بيت شعر ويصف مكاناً زاره مرة واحدة في اليمن) انتهى كلامك. أقول وبدون تعليق على ذلك بل أترك التعليق للقرَّاء الكرام؛ ليعرفوا أني قُلْتُ هذا قبل أن تقوله بأشهرٍ عدة، وهاكم نصُّ عبارتي: (6- بناءً على الفقرة السابقة، فلا غرابة أن يُقال: الشعر في الشرق، ويُربط فيه موقع بالغرب، أو يُقال: في الجنوب، ويقصد به موقع في الشمال أو الوسط، أو العكس، كما أنه قد يُقال حين مرور الشاعر أو القبيلة بالموضع) انتهى. وهو موجود بعدد الجزيرة الموضح رقمها وتاريخها آنفاً.
سابع عشر: الطرق من اليمن إلى داخل الجزيرة العربية معروفة منذ الزمن القديم، بل وترتبط بطرق الحاج القادم من الشرق. ومن ذلك ما ورد في كتاب المسالك والممالك لأبي القاسم عبيد الله بن عبدالله -المعروف بابن خرداذبه المتوفَّى في حدود عام 300هـ- حيث قال في صفحة 130 منه: (الطريق من اليمامة إلى اليمن: من اليمامة إلى الخرج، ثم إلى نبعة، ثم إلى المجازة، ثم إلى المعدن، ثم إلى الشفق، ثم إلى الثور، ثم إلى الفلج، ثم إلى الصفا، ثم إلى بئر الآبار، ثم إلى نجران، ثم إلى الحمى، ثم إلى برانس، ثم إلى مربع، ثم إلى المهجرة، ثم إلى المنازل التي قد مرَّ ذكرها في طريق الجادة إلى صنعاء). وكما أوصلنا من اليمامة إلى اليمن؛ فقد أرشد إلى الطريق من اليمامة إلى مكة وشمال الجزيرة؛ حيث وصف الطريق: (الطريق من اليمامة إلى مكة...) إلى أن قال: (ثم إلى القريتين من طريق البصرة، ثم إلى المنازل التي قد مرَّ ذكرها إلى مكة) صفحة 126 منه. وكما وصف لنا هذا الطريق حتى ربطه بطريق الحاج البصري، فقد أوضح لنا ذلك الطريق في صفحة 124 حيث قال: (الطريق من البصرة إلى مكة: من البصرة إلى المنجشانية...) حتى قال: (ثم إلى النباج، ثم إلى العوسجة، ثم إلى القريتين، ثم إلى رامة). من خلال هذا الوصف الدقيق للطريق يتضح أن لا مغالطات ولا اجتهادات فيما عقَّبْتُ به على الأخ الكريم، بل هو طريق ممتد من اليمن جنوباً حتى اليمامة، ومن اليمامة حتى رامة والقريتين، ومنهما حتى التقائه بطريق حاج البصرة الذي يمرُّ بالنباج (والنباج والقريتين ورامة مواقع معلومة غير مجهولة في منطقة القصيم)، وموقع الشقة وضارج وعينه منها معلوم كذلك. ولكن كما أسلفتُ هي مجادلة منه كما قال ذلك في صُلْب تعقيبه على السحيباني في الفقرة الثانية والعشرين؛ حيث قال: (قُلْتُ: (إنْ كنتُ ممَّن أُجادل على غير بينة...). ومن الإنصاف أن أقول: إنَّ طلبك ترك الحكم في ذلك للقرَّاء هو الاختيار السليم.
ختاماً أقول: إن هذا هو آخر تعقيب لي على هذا الموضوع، وأهمس في أُذن كل قارئ بأن الاختلاف في الرأي لا يُفسد للودِّ قضيةً، كما أهمس في أُذُن الأخ تركي فأقول: أتمنى لك من كل قلبي توفيقاً في جميع أعمالك. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
محمد بن عبدالرحمن الفراج
ص.ب: 5726- بريدة: 51432 |