يقول المجيدون من علماء التربية من المسلمين:( إن رسالة المعلم المسلم رسالة أنبياء) وهو ولا شك وصف دقيق عميق مؤثر، يرفع وينفع خاصة لرجال التربية والتعليم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلهم وخاتمهم، قد تجمع فيه ميراثهم كله بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، والقرآن الكريم عندما يعرض قصص الأنبياء السابقين:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }، { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } يقصد ضمن أمور عدة إلى طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلقاه من صدّ وردّ وإعراض وتكذيب، وإلى رعاية الله لدعوته وحزبه المفلحين ولو كانوا ضعفاء واعداؤهم اقوياء اشداء ألداء، مسلطون عليهم بالايذاء والبذاء، والقصة في القرآن الكريم هي احدى وسائل التربية المجيدة والمجدية، وبمناسبة ( يوم عاشوراء) فقد وردت عدة حلقات من قصة موسى عليه الصلاة والسلام، في سورة البقرة، والمائدة، والأعراف، ويونس، والاسراء، والكهف، وطه، وهناك إشارات اخرى إليها في أماكن اخرى من كتاب الله العزيز، ومن بلاغة القرآن وعمق تربيته وبُعد دلالته أنه يفرض في كل موضع من القرآن الجانب الذي يناسب ذلك الموضع وبالطريقة التي تتفق مع اتجاهه؛ ولذلك يقول العلماء: انك لا تجد تكراراً ولا املالاً كحال قصص البشر على كثرة قصص القرآن، حيث ان التنويع والتشويق في اختيار الحلقات التي تعرض ومشاهد كل حلقة والجانب المختار من كل حلقة وطريقة العرض هذه الجودة وهذه الصفة وهذا التميز جعل القصة جديدة وفريدةً في كل موضع متناسقةً مع هذا الموضوع، وهكذا يجتمع التناسق الفني والديني في التعبير والتصوير.
ان ما حكاه القرآن بأسلوبه الموجز المعجز عن موسى وفرعون وما معهما من اقوام وما حصل من امور تشعر كلها ان هذا اليوم فعلاً يوم عِزة ومنعة وسؤدد ورفعة لعباد الله الصادقين، كما انه يوم شكر وذكر وتفكر وتطهير وتحدث بالنعيم، هذا اليوم ما اعظم معانيه وانبل مراميه، وما أكبر عظاته، يا الله يا لروعة الإيمان حين يشرق في الضمائر والبصائر، واذ يفيض على الارواح، واذ يسكب السكينة والطمأنينة في القلوب، وإذ يملأ فراغ القلوب بالغنى، فإذا كل ما في الأرض تافه وحقير وزهيد، ان للمؤمن في مثل هذا اليوم تربية مثلى ووقفات عظام لا ينقطع فيضها، ان العاقبة للتقوى، وان نصر الله قريب، وان الباطل مهما أرغى وازبد، وهدد وتوعد، وقال بلسان الحال او المقال: من أشد منا قوة؟ وهي مقولة منكرة متكررة، اقول: مهما طال وتطاول فأمره إلى خسار وبوار، وهي أمور لمن فكر وتدبر تهز القلوب الغافلة الغافية هزاً، إن النعم حينما تكفر ولا تشكر فهي مهددة بالزوال والاضمحلال:{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }، وأما من بغى وطغى وتجبر وتكبر فان عذاب الله شديد، هذه هي سنن الله في خلقه، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان الا على الظالمين.
ولما نجا موسى وقومه سارع الى الشكر والذكر والتحديث بالنعمة واللجوء الى خالقه وبارئه، والقيام بأمره بأن صام ذلك اليوم شكراً لله عز وجل، وصامه ايضاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إن الحماقة التي يرتكبها العصاة والعتاة تتكرر على مدار الزمان { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } يقولونها في خشونة ورعونة، في عنف وصلف وجلف وغلظة وشدة وبشاعة منكرة، بلا تحرج من قلب او ضمير، وتقابلها كلمة الاتقياء الانقياء، كلمة القلب السليم المتصل بالله، فذاق طعم الايمان ذاق طعم العزة والمنعة، القلب الذي يرجو لقاء ربه: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } إن حيرة وخور الباطل المتكبر المتجبر تبدو واضحة من سياق الذكر الحكيم في مواجهة الحق المبين، وكيف بلغ بهم الحمق والجهل بأن كفروا النعمة ووقعوا في النقمة {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } تعجيلاً بالجزاء الأسوأ على الظلم والبغي والعدوان والبطر والبغي الوخيم الأثيم، ان التربية المثلى لموسى عليه السلام تبدو جلية واضحة في قول الحق سبحانه: {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يقولها بلغة الواثق العازم الجازم، لن نكون هالكين ولا مدركين ولا مفتونين، ان فرعون ومن معه تمخضت قلوبهم واعمالهم للفساد والافساد، ولم يعد فيها متسع للصلاح والإصلاح والفلاح {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} وهي حالة تذكر في كل قطر ومصر اذا اراد الله، فضاقت نفوسهم بموسى ودعوته، وكم يخطئ امثال هؤلاء في كل وقت وحين، وينخدعون بما يملكون من قوة وحيلة وفكر وخداع، وكم يغفلون عن امر الله الذي يباغتهم وهم لا يشعرون {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} يا لروعة التعبير والتصوير الذي يتكرر في كل وقت وحين { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، إن الولاء مقصود بين عباد الله الصالحين بإيمانهم وطاعتهم وانقيادهم لامر ربهم، وان تباعد بينهم الزمان ونأت بهم الأوطان، إن غير المسلمين لا حظّ ولا نصيب لهم في هذا الولاء، إن الأحق بموسى عليه الصلاة والسلام هم المؤمنون الصادقون، وإن ادعى غيرهم ما ادعاه كمال نبينا عليه الصلاة والسلام لما رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء (نحن أحق بموسى منكم، فصامه وامر بصيامه) والحديث متفق على صحته، إن الذي يخاف الله ينجيه ويقيه سبحانه من المخاوف؛ فلا يجمع له بين مخافتين، وهذا مفهوم حديث قدسي جليل، وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في النفوس، ان إقامة الحياة كلها على اساس العقيدة الصحيحة وربطها كلها بمحور الإيمان والعمل الصالح وإنشاء عالم إسلامي مميز مجيد تذوب فيه الفوارق والأجناس وتزول منه الانجاس، وهكذا يربي الله عباده المؤمنين بهذا القرآن تربية توقظ القلب، ويدرك غاية وجوده ويدرك ان له هدفاً اسمى وأعلى، إنها تربية تبنى لديه ملكة وحركة في الحواس، وفي الحس وفي التفكير والشعور متى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول، إن حياة الإيمان الصحيح هي حياة اليسر والاستقامة والقصد، وحياة الكفر هي التيه والعمى والضلال والعسر والتعثر، ان يوم عاشوراء ينبغي للمسلم أن يتخذ منه اسوةً وعبرةً وطريقاً للخيرات والقربات ومختلف الطاعات، ويعرف من خلاله طريق الصالحين وغيرهم ممن طغى وبغى، كما أن هذا اليوم يشعرك أنك من امة مختارة لا تتطلع الى بضاعة من بغى وتجبر وتكبر، بل المسلم يجتنب دوماً التشبه بأعداء الملة ابقاءً للتميز؛ ولذلك امر النبي بمخالفة اهل الكتاب في الصوم بأن نصوم التاسع معه، ولهذا التوجيه من المعاني والمقاصد والاهداف الشيء الكثير، سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية، والحديث في مسلم.
انه صوم ليوم او يومين او ثلاثة في وقت معتدل من العام، وله ميزات الصوم التي يدركها المسلم وقد خلّف سنة لا يدري ماذا كتب له او عليه فيها، وهذا الصيام يكفر ما مضى من سنة منصرمة، والمسلم احوج ما يكون إلى هذا الفضل، والله ذو الفضل العظيم.
|