كثيرة هي الأحداث والمواقف الصعبة التي تواجه الدول والشعوب، لكن قليلا منها ما يملك القوة والتأثير بحيث يبقي انعكاسات وآثارا طويلة الأمد. ومع أن كل حدث ضار ينتج عنه بالضرورة أضرار مباشرة وغير مباشرة، إلا أنه ومن خلال التعامل الشامل المدروس مع ذلك الحدث ووفق استراتيجية تعتمد على تنبؤات دقيقة وغير منفعلة بوقوع الحدث، بما يمكن من ترتيب جميع الإجراءات اللازمة للتعاطي معه وفق برنامج عملي شامل يمكن من تخفيف عنصر الصدمة اولاً حتى لا ترتبك الخطط والخطوات التفصيلية لمواجهته، وبالتالي يعطي القدرة على اتخاذ قرارات سليمة وملائمة. وعليه فإن مواجهة الأحداث وفق هذه الرؤية، لا أقول بأنه سيخفف من آثارها السلبية فحسب بل سيؤدي إلى توظيف الحدث واستثماره لتحقيق مكاسب ومصالح لايمكن لها أن تتحقق لولا هذه المواجهة السليمة.والمخطط لها بدقة،
لقد شهدنا أحداثا ووقائع هائلة ومدمرة عبر التاريخ حدثت لكثير من الأمم والدول ولأنه تم التعامل معها وفق تصور واضح ومدروس تحققت من ورائها نتائج إيجابية فاقت التوقعات، حتى ظن المراقب أن تلك الأحداث من تدبير القوم أنفسهم. لما حصل من الاستثمار الإيجابي لها. وما أحداث الحادي عشر منا ببعيد فلقد استثمرتها أمريكا وما زالت تعمل في هذا الاتجاه إلى ما لا نهاية، حتى تجاوزت في ذلك حدود المعقول إلى الاستغلال للحدث، وهذا لا نطالب بمثله لأن مبادئنا تؤطر لنا التعامل العادل.
وانظر إلى اليهود كيف يستغلون الأحداث لصالحهم حتى ولو لم تحدث لهم بشكل مباشر وما قصة المحرقة المزعومة إلا مثال واضح لهذا المنهج، كما أن أقرب مثال لهؤلاء استغلالهم للتفجيرات التي حصلت في المغرب لدعوة اليهود المغاربة للهجرة إلى فلسطين وكأن إسرائيل تعيش في غاية الأمن، انظر مثلاً لليابانيين كيف استثمروا مأساتهم في الحرب العالمية الثانية لما ضربوا بالقنابل النووية فحولوا المصيبة إلى نوع من التحدي الحضاري حتى أصبح الشعب الياباني من أرقى الشعوب في التقدم الصناعي والمدني رغم فقر الموارد الطبيعية لديهم، إن من الأهمية بمكان إدراك هذه المعاني عند مواجهة الأحداث حتى نحول المحن إلى منح، فالأحداث تجري بقدر الله، ولم يجعل الله سبحانه الأعمال كلها شراً محضا بل كل فعل مهما بلغ به الشر مداه لابد أن في طياته بعض الخير لكن من الحصيف الذي يستطيع أن يستخلص هذا الخير من هذا الشر المتلاطم، أعتقد جازماً أنه لا يستطيع أحد ذلك باجتهاد فردي بل لابد من رؤى وجهود جماعية منظمة لمواجهة هذه الأحداث.
إن الناظر في أحوالنا يتملكه الأسى من فرط التعامل مع الأحداث بروح تفتقد للمسؤولية وبعد النظر من كثير ممن يزعم أنه قادر على التصدي لها فلما ادلهم الخطب وانجلى الغبار انكشفت السوءات وبانت القدرات المتواضعة خاصة عند كثير ممن يعدون مثقفين وقادة فكر، حيث تم التعامل مع الحدث بسطحية لا تنم عن أدنى قدرات يمكن أن تحقق ما نطالب به من الاستثمار الأمثل للحدث في خدمة الأمة والوطن في أمنه ووحدته، بل ليت الأمر توقف عند هذا الحد بل تحول الاستثمار الذي كنا نرجوه إلى سعي لاستغلال الحدث في تصفية حسابات شخصية وصراعات فكرية وتاليب متعمد ينقصه العدل والحوار البناء، وكان هذا الخطاب والطرح بقصد أو بدونه يهدف إلى الإمعان في تعميق المأساة، بل والاستثمار الأسوأ للحدث بتصعيد حدة شظايا الانفجار حتى تطال أوسع دائرة ممكنة، ينبغي للجميع أن يدرك أنه بالطعن في ثوابت وقيم المجتمع أي مجتمع كان، خاصة في خضم الأزمات يعد وبدون مبالغة طعنة مهلكة وخيانة للأمة التي ينتمي اليها لأنه يعني الطعن في مصدر قوتها في وقت هي بأمس الحاجة إلى التمسك به، كيف وهذه القيم قيم سماوية لا تقبل المساومة كونها الملاذ الأخير بعون الله للنجاة والنصر، إن تبسيط الحدث وحصره في إطار داخلي دون النظر للتقلبات الإقليمية والدولية، يعد نظرة قاصرة، كيف لا وقد تناغم هذا الخطاب النشاز مع دعوات خارجية قبل الحدث وبعده تدعو الى نفس المطالب والتغييرات، أهذا محض مصادفة أو أن التاريخ يعيد نفسه بالتآمر على الوطن والوقوف في صف أعدائه. إن الإلمام بالواقع الدولي والإقليمي مع فهم الطيف الداخلي يحتم على كل عاقل مخلص أن يعالج الأمر وفق معادلة متوازنة تستثمر الحدث وتحول آثاره إلى سلسلة من الخطوات الواثقة التي تعود على الأمة بمزيد من التلاحم ووحدة الصف داخلياً مع تحفيز الهمم إلى العمل المنتج وفق برامج وآليات جديدة تجعل الحدث تجربة ثرية للخبرة والعطاء وصلابة في القوة والكيان، مع موقف واضح ومتوازن على المستوى الخارجي الذي يعتمد في قوة دفعه وتحقيق غاياته على مقدار قوة الجبهة الداخلية وتماسكها من حيث انسجام الأهداف وتوافق الغايات وفق نسيج وطني يؤمن بالمصير المشترك مدركاً للأبعاد التاريخية والروحية لهذا الوطن الذي يمثل موطن الرسالات مهبط الوحي وقبلة أكثر من مليار وثلاثمائة مليون من البشر في جميع مدارات الكرة الأرضية وما يمثله ذلك من استحقاقات لا يمكن تجاهلها.
إن الظروف المحلية والإقليمية والدولية لا تسمح مطلقاً بإثارة نوازع ومطالبات قد جربت ردحاً من الزمن في عدة بلدان فما حققت إلا مزيداً من البؤس والتخلف فلا هي حققت تقدما حضاريا علميا ولا هي بقيت مستمسكة بقيمها فخسرت بالجملة، وها هي البؤر المتبقية من هذه التيارات تعود للترويج لهذه السلعة في بلاد الرسالة والطهر بعدما أفلست في مناخات هي أحرى بالزراعة فيها لفساد بعض أرضها بما يصلح لهذه النبتة المرة. إننا لا نزال نعاني من تأثير ردات الفعل العاطفية الأنية على مواقفنا تجاه الأحداث، ما يفقدنا القدرة على الوصول إلى التصور الصحيح للمشكلة وفهم كافة أبعادها ومن ثم التمكن الواثق من المعالجة السليمة لكافة آثارها وأسبابها واستثمارها بما يحقق لنا نتائج إيجابية لا على المستوى الداخلي فحسب بل وعلى المستوى الخارجي كذلك، إن ذلك لن يتأتى لنا إلا إذا استشعرنا أهمية رصد المعلومات وتحليلها وفق دراسات متخصصة بعيداً عن الأحادية والفردية والفوضوية في مواجهة الأحداث والمواقف التي أصبحت على درجة من التعقيد والتشابك بقدر لا يمكن الإحاطة به وبأبعاده وخلفياته على المستوى الفردي فضلاً عن غيرالمتخصص، إننا بحاجة ماسة إلى مراكز أبحاث متخصصة تملك القدرة على حيازة المعلومات المتكاملة ومن ثم القدرة على دراستها وتحليلها، وفق اطر منظمة ومن ثم تقديم توصيات وأحكام دقيقة لكافة الظواهر والأحداث، تمكن من يتخذ القرارات على التصرف وفق معطيات واضحة ومطمئنة تخدم الأهداف والمصالح وفق نظرة شاملة تعكس القدرة على فهم العالم من حولنا بما يجنبنا اتخاذ قرارات وتصرفات لا تتعدى أن تكون ردات فعل يطلبها العدو بشكل مدروس منه سبق أن وضعها قبل أن ينفذ مخططاته، أو نتيجة لأهواء فئة تعاني من استلاب حضاري معزول تهيج كلما سمعت صيحة، تربك الخطى وتعيق التقدم وتشغل القيادة عن هم أكبر ببنيات الطريق، مما يستلزم معه لجماً لخطامها تسكيناً لثائرة الفتنة وكبحاً لجوانح السفه المقيت المنبت الذي لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، حمى الله الديار من كل متربص لا يؤمن بيوم الحساب. والله الموفق.
ص. ب: 31886 الرياض 11418 |