لا أدري لماذا يضيق الصدر، وتحمرّ الأنوف، ونغضب لأتفه الأسباب، وتنحسر مسألة التحمل عبر استيعاب الأفعال وردودها، بسرعة الغضب وترجمة هذه الانفعالات بصيغة توحي بأن الأخطاء غير المقصودة غير واردة، في ارهاق مجحف وجائر في الوقت نفسه للإنسان وكأنه إله، وقد يكون من يرى هذه النظرة غير العادلة والمفتقرة إلى الإنصاف من خلال أفقه الضيق يخطئ أضعاف من يناله توبيخه في اليوم والليلة، وقد يحول مركزه الاجتماعي المرموق أو منصبه الرفيع دون تلقيه النقد والتوبيخ مساهماً هذا التضليل القسري والتغييب المدهون بطلاء الكمال (والكمال لله وحده) في تعسفه، وتعجرفه بل انها تشكل ضموراً في أريحيته ان كان ثمة شيء منها. وبالتالي اضمحلال الهدف السامي والنيل في التصحيح من منطلق ورود الخطأ بين البشر وامكانية حدوثه ناسياً أو متناسياً بأنه حينما كان في مقاعد الدراسة ربما كان أكثر الطلبة ارهاقا لمدرسه لكثرة أخطائه، ومع ذلك فإن المدرس ساهم في نجاحه لأنه يعي الدور البناء والهادف للمدرس في التعليم من خلال احتواء اخطائه لسعة صدره وافقه في الوقت نفسه ، وبلورتها لتصاغ وتصب بالشكل الصحيح والملائم ليتحقق الهدف من التعليم.
وأزجي تحية عطرة في هذا السياق إلى جميع المدرسين والمدرسات لاستشعارهم هذه الرسالة النبيلة، وسعة صدورهم، وقد يمضي المدرس أو المدرسة وقتاً مع أبنائنا ربما أطول مما نقضيه نحن، ومع ذلك فإن الأنوف لا تلبث أن تحمر من سرعة الانفعال، (اعقل يا ولد واجلسي يابنت)، عذراً على هذا المخرج الاضطراري وأعود لحديثي بأن الرعونة أو التقريع لم تكن قط أسلوباً لائقاً ووسيلة مناسبة في تمرير وصياغة وتصحيح المفاهيم، إن لم تكن تكريساً للغلظة والخشونة وتناميها شيئا فشيئاً لتصل إلى مرحلة الكره والعداء. وفي ظل التقدم التقني بوتيرته المتسارعة وافرازات الحضارة المعاصرة، بات الانفعال والتشنج سمات بارزة في حين تتم محاصرة المبدأ الانساني النبيل، العفو عند المقدرة والتسامح في قبول المعذرة، ما يلغي قيمة الاعتذار كسلوك حضاري نبيل، ويحاصر نبل الأخلاق حينما يلغي الأريحية من قاموس التعامل وهذا بدوره يحيلنا إلى إشكالية أشد خطراً وأكثر تعقيداً، ويضيق الخناق على مفهوم يسوغ التفاهم بين البشر ويساهم في بقائهم ويصر على الحضور بالرغم من محاصرته بأسلاك شائكة وقابلة للاشتعال لانحسار تفعيله ألا وهو الصبر.. قال الشاعر:
لاتحسب المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا |
وإذا بلغ الإنسان المجد بتوفيق من الله نتيجة صبره فحري به بأن لاينسلخ من هذه الصفة التي ساهمت في هذا البلوغ، بل يمارسها سلوكاً نبيلاً وخلقاً رفيعاً، فكما أن الآخرين صبروا عليه فإنه يتعين عليه كذلك أن يصبر على من دونه شأناً، وإذا كان الصبر ساهم وبفعالية لمن اتصف به لبلوغ المجد، فإن الصبر أيضاً على الملمات والظروف التي تصيب الإنسان أكثر مجداً وأرفع شأناً وتأثيراً لما لهذه الصفة الجميلة والنبيلة من قيمة قيّمة كيف لا ورب العزة والجلال ذكرها في كتابه الكريم في مواقف عدة ويزيد هذه الصفة جمالاً وبهاء محبة الخالق عز وجل للصابرين، والبشرى لهم، فكيف تتاح لنا هذه الفرصة الثمينة والتي لاتقدر بأموال الدنيا ونعرض عنها، في غفلة من أمرنا مايتيح المجال لإبليس اللعين لكي يفرض هيمنته وسيطرته على قلب المؤمن مساهماً في تغييب عقله ومخلخلاً إيمانه بربه ليقع في المحظور في نزوة شيطانية المنشأ لتشكل جسراً سهلاً لعبور النزعة العدوانية في لحظة تسرع وانفعال تهوي به إلى القاع، فاقداً بذلك احترامه لنفسه بل وقيمته، بابتعاده عن تعاليم ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) ومسألة التحكم بالمشاعر في هذه الحالة تنطوي على سلامة العقل ونضج الادراك، وليست صعبة المنال بل انها من السهولة متى ما كانت الثقة بالله وحده هي المقياس، حينها فإن بعد النظر سيسطر عنواناً بارزاً لما سيجنيه ويحققه جراء انتهاز هذه الفرصة الثمينة في حب مالك الملك له وارتفاع قيمته وقدره عنده، وقد تشكل هذه المرحلة الحرجة والحساسة في لحظة الغضب منعطفاً خطيراً من حيث كيفية التعامل والتفاعل لأن المؤشر في هذه الحالة يجب أن يميل إلى أحد طرفي نقيض، فإما إلى الخير حينما يكون حاضراً بعقله ومداركه وقوة إيمانه وإما إلى الشر في تخبط يزيد من خسارته وكآبته، ويبرز في هذه المرحلة الحساسة التروي كأحد الأعمدة الصلبة التي قد تحول بينه وبين الوقوع في الشرور وعواقب الأمور المخسرة ولما كان التروي والتريث والتؤدة والأناة مقومات لطرق الفضيلة في استشعار فذ للأهداف النبيلة وصقل الروح بعنفوان الجمال الزاهي المرافق للإنسان في حله وترحاله فإن في المقابل هناك التسرع والعجلة والرعونة معاول هدم تقوض القيم وتجهض على الحس الإنساني في بهيمية أقرب ما تكون إلى إقصاء العقل عن أداء دوره الفعال، ومما سبق ذكره يتضح ما للصبر هذه الصفة الجميلة من أثر طيب ويزيدها جمالاً وبهاء، محبة الخالق عز وجل للصابرين والبشرى لهم، والصبر والاحتساب يعكسان سلوك المسلم النبيل وقوة إيمانه بربه، لأنه يدرك بأن ما أصابه إنما هو ابتلاء واختبار لتماسكه ويدرك كذلك بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن كل شيء يدور في هذا الكون، وليس فقط ما يصيبه في كتاب مسطور، في يقين ثابت، لذلك كان الإيمان واحة المؤمن الفسيحة المليئة بالخير فإن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر وفي كل خير، وهذه من نعم المولى تبارك وتعالى قال عز من قائل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} يا إلهي ما أرحمك وما أعدلك اللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين ولاتحرمنا عفوك ورضاك، وإذا قنط المسلم من رحمة الله فإن هذا ضعف في يقينه واهتزاز في قناعته ملوثاً ابليس اللعين فكره ولايبرح متغلغلاً في وجدانه مستغلا هذه الظروف القاسية ليبعده عن طاعة ربه، ويجعل القنوط مؤشراً لانحرافه ويجعل من السهو والنسيان مشجباً معلقاً عليه أوزاره اللهم ألهمني وإياكم سرعة المبادرة عندما تكون القلوب حائرة بقول {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
قال الشاعر:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني
أعز وأحداث الزمان تهون
فظل يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون |
وتقبلوا تحياتي،،،
|