Monday 1st March,200411477العددالأثنين 10 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العرب.. وجهة نظر يابانية (1) العرب.. وجهة نظر يابانية (1)
عبد الرحمن الحبيب

الشخصية العربية المعاصرة تعيش أزمة حادة منذ عقود، فمن يقوم بمحاولة تفكيك هذه الشخصية ودراستها فإنه يواجه مهمة عسيرة يُشفق منها، لأنها حالة معقدة وغامضة ومزدوجة. وتغدو المهمة ضرباً من المغامرة المحفوفة بسهام الأقلام العربية النرجسية وبمفكرين ومثقفين يرون الأزمة تبدأ أولاً لدى الآخرين من مستعمرين وإمبرياليين.. إزاء مهمة وعرة من هذا القبيل نحن قبالة مغامر وكاتب تنقل بين البلاد العربية واليابان زهاء أربعين عاماً، تابع خلالها الرواية العربية وترجم وقابل كتاباً ومفكرين عرباً واهتم بالحياة اليومية العربية، في المدينة والريف والبادية.. إنه المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا، مؤلف كتاب (العرب، وجهة نظر يابانية) الذي صدر قبل بضعة أشهر. ورغم إشارتي لهذا الكتاب في غير مقالة فإنني لم أتناوله بالاستعراض وقتئذ - لعدم حصولي على النسخة كاملة - وهو ما سأقوم به هنا.
(قابلت كتاباً عرباً في البلدان العربية كلها: ولي أصدقاء كثيرون أحبهم.. أقمت مع الفلاحين في ريف مصر، ومع البدو في بادية الشام، وهناك تعلمت عميقاً دروساً في الحياة والثقافة وحوار الشعوب). هكذا يوطىء المؤلف كتابه. وفي ذات المقدمة يوضح لنا دوافع كتابته: (أربعون عاماً تدفعني دفعاً لأقول بعض الأفكار والانطباعات عن الشخصية العربية المعاصرة.. وعلاقتي الحميمة مع الشخصية العربية تشجعني.. بعض أصدقائي العرب ألحّوا عليّ أن اكتب بالعربية شيئاً مما أعرفه.. وها أنذا أفتح عيني لأرى بعين المراقب المقارن.. المحب الحريص..).
المنهج الذي اتبعه المؤلف لم يكن منهجاً أكاديمياً، بل لم يكن منهجاً بحثياً بالمعنى المتعارف عليه يتبع ترتيباً منطقياً للمواضيع وربط الأفكار، إنما كان عبارة عن أفكار وانطباعات مبعثرة، كما أشير في المقتطف السابق، وكما ألمح المؤلف غير مرة في المقدمة: (.. ولكني أقول انطباعي مباشرة..) وفي موقع آخر:(.. أقدم بعض النقاط التي تسم الشخصية العربية المعاصرة. وهذه الملاحظات.. هي نتيجة تجاربي في الإقامة في مصر.. والبلدان العربية..).
يلقي المؤلف حجره بالبئر الراكدة مباشرة ودون مواربة في الجزء الثاني من المقدمة: (أول ما اكتشفت من البداية في المجتمع العربي هو غياب العدالة الاجتماعية، أي غياب المبدأ الذي يعتمد عليه الناس... كل شيء ممكن لأن القانون لا يحمي الناس من الظلم). (واستغرب باستمرار لماذا يستعملون كلمة الديموقراطية كثيراً في المجتمع العربي؟ إن ظروف الواقع العربي لا تسمح باستعمالها لأن ما يجري فعلاً هو عكسها تماماً). (أذكر عندما كنت أعد كتاباً باليابانية عن مصر أنني لم أجد الكتاب الفريد (شخصية مصر) للدكتور جمال حمدان لأنه كان ممنوعاً! رغم أن الكاتب يعتز بعروبته اعتزازاً لا يقل عن اعتزازه بمصريته، إضافة إلى أن الكتاب نفسه لا مثيل له في ميدانه!).
وبهذه المناسبة يجدر أن نذكر أن (جمال حمدان) تمت مضايقته في أواسط الستينات، وهو أعظم الدارسين للشخصية العربية المصرية، وقد طواه النسيان ولم يذكره أحد إلا فيما ندر، حتى قضى نحبه في شقته عام 1993م وحيداً حزيناً منعزلاً معزولاً، فعادت الأقلام العربية كدأبها مع الميتين، تمجده وتعليه إلى سنام البحث الجغرافي والاجتماعي العربي؟
ويشخص الكاتب الداء: (إن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي ولذلك أي كاتب يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فإنني لا اعتبر حديثه مفيداً وجيداً) ولا يقصد الكاتب هنا القمع بشكله التقليدي السياسي، بل بكافة أشكاله. ويتساءل: هل هناك فرد مستقل بفردية في المجتمع العربي؟ ويجيب: (المجتمع العربي مشغول بفكرة النمط الواحد على غرار الحاكم الواحد، والقيمة الواحدة.. ولذلك يحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآراءهم. وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد، وخصوصيته.. أعني يغيب مفهوم المواطن الفرد لتحل مكانه فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد). ويربط المؤلف كل ما سبق ليصل إلى نتيجة وهي اللا إحساس بالمسؤولية: (.. في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود القمع وتذوب استقلالية الفرد وقيمته كإنسان يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية. لذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤوليته عن الممتلكات العامة مثل الحدائق والشوارع ووسائل النقل الحكومية.. ولذلك يدمرها الناس اعتقاداً منهم أنها ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم..). ثم يفصل الكاتب في ذلك مثل الشعور الضعيف تجاه المناضلين المتميزين من مفكرين وأدباء وسياسيين وعلماء وفنانيين وسواهم، ويخلص إلى خطورة النتيجة: (وأخطر نتائج ذلك كله سيطرة الشعور باللا جدوى حتى لدى الطليعة المثقفة). ولا ينفي المؤلف وجود استثناءات لذلك: (..أستدرك فأقول هناك أفراد عرب يتعاملون مع الواقع والحقائق الجديدة ولكنهم أفراد فقط ولا يشكلون تياراً اجتماعياً يؤثر في حياة الناس).
ويعقد المؤلف مقارنة مع الأخطاء الفادحة التي ارتكبها اليابانيون قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، ثم بعدئذ ممارستهم الجادة للنقد الذاتي قبل أي عمل آخر، فبدون هذا النقد لا إمكانية لتصحيح الأخطاء. ويضع المؤلف هذا الطرح المقارن:( كثيراً ما واجهت هذا السؤال في البلدان العربية: لقد ضربتكم الولايات المتحدة بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟.. ولكن طرح المسألة على هذا النحو لا يؤدي إلى شيء. علينا أن نعي أخطاءنا في الحرب العالمية أولا ثم نصححها ثانياً. وأخيراً علينا أن نتخلص من الأسباب.. إذن المشكلة ليست في أن نكره أمريكاً أم لا كما يرى المؤلف، المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم نمارس نقداً ذاتياً بلا مجاملة لأنفسنا بعدئذ نختار الطريق الذي يصحح الانحراف ويمنع تكراره في المستقبل. أما المشاعر وحدها فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلاً). وأتساءل أليس أجدى بنا أن نتمثل هذه الطريقة في حالتنا العربية؟
في فصل ثقافة الأنا وثقافة الآخر تناول المؤلف مسألة الانغلاق على الذات وعدم فهم ثقافة الآخر وظروفه، موضحاً أن الموقف السليم أن نرى الآخر موجوداً وجوداً حياً مثلنا تماماً، وليس مجرد وجود فيزيقي. فإن نملك وعياً بأن الأجانب يعيشون كبشر مثلنا، هذا الوعي ضروري في البداية لإدراك أن مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى تكون معاً المجتمع الإنساني. وذلك يتطلب أن نملك أمرين أولهما وعي الحياة اليومية والثاني تخيل وجود الآخرين. ويبقى الأهم وهو تحقيق الخطوة التالية؛ كيف نحقق كل هذا بين الأنا والآخر؟ وفي ذلك يوضح الكاتب كثيراً من الأمثلة. مثلاً الكاتب السنغالي سينبين يقول:(أنا ربيت في أسرة كبيرة بدلاً من الأسرة النووية. طبعاً عندي أمي.. ورغم أنها ولدتني فهي لا تقوم بعمل شيء خاص لأجلي كابن خاص لها. من رباني هو أسرتي وليس أمي وهذا الواقع لم يسبب لي الشعور بعدم الرضا أو التشويه الأخلاقي). يقول المؤلف الياباني: (هذا المثال الجديد علينا في اليابان يكاد لا يصدق. إن حكم القيمة الذي قدمه سينبين ليس معروفاً في تاريخ اليابان، ولكي نفهم هذا الحكم ولكي نقبله كما هو فإن علينا أن نعي نظام القيم في مجتمع السنغال والمجتمعات المماثلة، ويجب أن يكون وعينا لذلك كاملاً. ان المهم أن نتابع الجزء في علاقته مع محيطه واتصاله بهذا المحيط.. فلا يجوز أن نقتطع الجزء من سياقه.. علينا أن نتابع الموضوع في حلقاته المتسلسلة المتواشجة. هناك خطر دائم عندما نواجه ثقافة مختلفة أن نعتمد على الأفكار الجاهزة، ومنها يتم القفز من فكرة إلى أخرى، ليتم الوصول إلى استنتاج أخير حاسم وننحرف عن الواقع. الأفكار الجاهزة تخرب البحث وتخرب فهمنا للواقع. لذلك يجب التأكيد على ضرورة الاعتماد على التجربة المباشرة، أي نبدأ البحث من مادة ملموسة، وأن نرى تلك المادة في بيئتها الثقافية عبر علاقاتها وتواصلها.. وللحديث بقية.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved