كان الحديث في الحلقة السابقة مركَّزاً على ما حدث في الصباحية الشعرية, التي أقيمت في مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون في صنعاء, وسعدت بالمشاركة في إحيائها مع الشاعرين الكبيرين محمد الشرفي وإبراهيم الحضراني, وذلك يوم الخميس السادس عشر من ذي القعدة, عام 1424هـ. وبعد تلك الصباحية أقام مدير المؤسسة, الأستاذ عبدالسلام عثمان للزميل الدكتور عز الدين موسى ولي مأدبة غداء مع عدد من الاخوة في مطعم شعبي مشابه للمطعم الذي دعانا اليه في اليوم الذي قبله الدكتور يوسف عبدالله. وتلت وجبة الغداء كما تلت وجبة الغداء في اليوم السابق له قيلولة مريحة.
أما مساء ذلك اليوم فانصبت فيه جهود من دعوا الى مؤتمر صنعاء بصفاتهم الشخصية ليتضمن اعلان المؤتمر, أو بيانه, الاشارة الى ان ما ترتكبه إسرائيل ضد الفلسطينيين, إنساناً وأرضاً وهوية, يتنافى مع احترام حقوق الإنسان, التي تنادي باحترامها شعوب العالم, كما تنادي حكوماته, ما هي صادقة منها وما هي كاذبة منافقة, والاشارة الى ما يحدث في العراق على أيدي القوات المحتلة له, وان يتضمَّن, أيضاً, الاشارة الى ان الديمقراطية يجب ألا تفرض على الشعوب من خارجها, وان تراعى لكل شعب هويته الدينية والثقافية. وقد نجحت تلك الجهود بتآزر بعض الوفود الرسمية, في تضمين الاعلان, أو البيان,ما ذكر.
ولقد كان من بركات الزميل الدكتور عز الدين موسى وافضاله عليَّ ان عرَّفني بأخ كريم شهم هو المهندس حسن العيني, وكانت أول مرة أعرف فيها أسرة هذا الأخ الكريم الشهم قد تمت قبل أربعين عاماً تقريباً, وذلك عندما أدركت معالم فكر عمِّه الدكتور محسن العيني من خلال ترجمته لكتاب(كنت طبيبة في اليمن), وفي المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي, الذي عقد في القاهرة سنة 2002م, تعرفت عليه شخصياً, فوجدته عالماً في حقل تخصصه مثقفاً يتحلى بالتواضع والأدب الجم, وأكرم بهما من صفتين! ثم تجدد اللقاء به في المؤتمر الثاني للمؤسسة, الذي عقد في بيروت عام 2003م.
كان مقرراً ان يبدأ مؤتمر صنعاء مساء يوم السبت. ومعنى ذلك أنه كان لديَّ يوم ونصف اليوم استطيع خلال زمنهما ان اتحرك لأرى ما يمكن ان أرى من بلدان اليمن ومناطقها. فعزمت على الذهاب الى مدينة تعز, فأراها وأرى ما في الطريق إليها من بلدان ومناطق.
وكان من لطف الأخ المهندس حسن العيني ان اصطحبني إليها بسيارته، فكان نعم الرفيق, جوداً وايناساً وإفادة.
انطلق بي ذلك الرفيق الكريم من صنعاء بسيارته صوب تعز حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة. وكانت المناظر في الطريق جميلة وان لم يكن الفصل فصل أمطار يكسبها نزولها خضرة تزيد النفس بهجة ومتعة. وكان من الأمكنة التي مررنا بها مدينة ذمار المشهورة, التي تبعد عن صنعاء حوالي مائة كيل. ويعدُّ جامعها من أقدم المساجد في اليمن, إذ عمر في آواخر العهد النبوي, أو أول عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه. وينتسب الى هذه المدينة كثير من بيوتات العلم في اليمن.
ومن هذه البيوتات من ينتسبون الى بيت النبوة, ومنهم من يسمون القضاة, وينتسبون الى قبائل عدة, مثل بني الأكوع من حمير, وبني العنسي من مذحج.
وبعد تسعين كيلاً من مغادرتنا مدينة ذمار وصلنا الى مدينة إب, التي تسمَّى مدينة الاقليم الأخضر, الذي يأخذ زينته, اخضراراً وجمالاً, أواخر فصل الربيع وشهور الصيف. وكان من أزهى الفترات التي مرت بها هذه المدينة فترة حكم الملكة الصليحية الحرة السيدة أروى بنت أحمد المتوفاة سنة 532هـ. ولها سور مبني من الحجارة, وخمسة أبواب بقي مداخل ثلاثة منها هي: مداخل باب النصر, من الشرق, وباب سنبل من الجنوب, وباب الراكزة (العتبة) من الشمال, وتؤدي هذه المداخل الى ممرات مرصوفة بالحجارة حتى الجامع الكبير, الذي عمرت مقدمته في عهد أحد سلاطين الدولة الرسولية في القرن السابع الهجري. وتمتاز أزقتها بضيقها وتعرُّجها, كما تمتاز مباني دورها بأنها ذات طوابق يصل بعضها الى ستة, ومبنية بحجارة بيضاء وأخشاب, وفيها عدد من المدارس التي كانت الى وقت قريب مراكز علمية نشطة. على أن لمتطلبات التطوير والتحديث بعض آثار لا يرتاح اليها محبو الآثار. فقد ازيلت أجزاء من سورها القديم وبعض بواباتها, والتهم امتدادها العمراني قسطاً كبيراً من البساط الأخضر الذي كانت تتصف به, لكن هناك إيجابيات للتطوير والتحديث, منها إنشاء جامعة إب, التي تضم عدداً من الكليات.
وبعد أداء الصلاة وتناول غداء لذيذ في أحد مطاعم إب واصلنا السير الى مدينة تعز, فوصلنا إليها بعد العصر, وكان زمن الرحلة, منذ أن بدأ الى ان انتهى, ممتعاً ومفيداً بما أضفى عليه الأخ الكريم المهندس حسن من إيناس, وسرد لتاريخ مضى, وشرح لحاضر معاش.
وما ان وصلنا الى ربوع مدينة تعز الجميلة حتى أخذني المهندس حسن الى فندق سوفيتل المشاد فوق جبل يطل على هذه المدينة. وهذا الفندق الجديد من أجمل الفنادق التي رأيتها في رحلاتي الى مدن كثيرة في العالم, شرقه وغربه.
وتقع مدينة تعز في سفح جبل صبر المشهور, الذي يبلغ ارتفاعه 3000 متر عن سطح البحر. وكانت تسمىعُدَينة في حين كان اسم تعز يطلق في القلعة التي تسمى الآن القاهرة. وكان أول من مصَّرها الملك المظفر الرسولي عام 533هـ, واصبحت عاصمة لدولة الرسوليين, الذين بنوا عدة قصور في ضواحيها. على أنها ظلت - رغم ازدهارها - صغيرة نسبياً, ولم تمتد خارج أسوارها إلا منذ أن اتخذها الإمام أحمد قاعدة لحكمه عام 1367هـ. ويبدو أن من أهم أسباب اتخاذه لها عاصمة - بدلاً من صنعاء - أنه كان نائباً عليها من قبل أبيه, فألفها وفضلها على غيرها.
وبعد استراحة قصيرة في فندق سوفتيل الجميل كان للتجول في تعز القديمة متعته وفائدته في رؤية معالمها التي من أشهرها جامع المظفَّر وجامع الأشرفية.
وفي صباح اليوم التالي أخذني المهندس حسن الى جبل صبر, الذي ترقد المدينة في حضنه. وكانت الطريق الى أعلاه قد عُبِّدت على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز, قبل سنوات. وعند منتصفه تقريباً توجد استراحة بنيت على حساب صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان, ولكنها حتى الآن - كما فهمت - لم تفتح للجمهور كي يستفاد منها مادياً. وبالقرب منها سأل المهندس حسن صاحبة دكان صغير ان كان لديها صباحية, فأجابت بالإيجاب, ودخلنا البيت التابع لها, فصعدنا الى غرفة في الطابق العلوي منه خصصت لتناول الطعام. وأحضر لنا العامل فيها فطوراً من ألذ ما فيه خبز اسمه (كدم).
وبعد ذلك نزلنا من جبل صبر لنبدأ مسيرة العودة الى صنعاء. وما كانت رفقة الأخ المهندس حسن في الإياب تقل عن رفقته في الذهاب, إمتاعاً بالأحاديث الشيقة المفيدة المقرونة بكل ما في اللطف والجود من معنى. وكان منتهى تلك الرحلة في صنعاء بعد ظهر يوم السبت, الذي تم في مسائه افتتاح مؤتمر صنعاء حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور محكمة الجنايات الدولية. وما أدراك ما ذلك المؤتمر!
|