في جلسة هادئة جداً، خلال زيارة واجب ومجاملة قمت بها تلبية لدعوة كريمة من أخ عزيز، فُرض على مسامعي حوار تسوده مشاعر الرضى والإعجاب بين شابّين كانا يجلسان إلى يساري، حول موضوع يشغل بال السواد الأعظم من الناس هذه الأيام، لقد شدّني أسلوبهما في الحوار، وشدّني أكثر جوّ الوفاق، والتجانس، والتناغم، والانسجام، الذي كان يجمعهما حول ذلك الموضوع. ما الموضوع يا تُرى؟
لن أطيل عليك قارئي الكريم، ولا تذهب بعيداً في تكهناتك، فالموضوع لا يتصل بالعراق ولا بفلسطين ولا حتى بالهجمة الهولاكية على الأمة بأسرها، وإنما يتصل ببرامج الفضائيات المتنوعة مثل (على الهوا سوى) و(سوبر ستار) وأخرى كثيرة، ولاسيما البرنامج الذي يشكل حديث الساعة والدقيقة والثانية، وحديث الليل والنهار، وحديث ال 24 ساعة بث فضائي مباشر يومياً؛ إنه برنامج (ستار أكاديمي) وفرسانه الأبطال. والحقيقة إن عبارات صاحبينا تشير إلى أنهما ارتميا مستسلمين بكامل وجدانهما في تلك الأجواء؛ يتبادلان الغزل الحقيقي تارة في البرنامج نفسه، وتارة أخرى في فرسانه.
ولعلي أنقل لك عزيزي القارئ (بشيء من التصرف في الصياغة فقط) بعضاً من ذلك الحوار الذي أعياني لمدة تزيد عن الثلاثين دقيقة: الأول: (أرأيت كيف يتعاملون مع بعضهم البعض بمودة، وحب، وارتياح، وبراءة، والعجيب أنهم لا يؤدون مشاهد تمثيلية في فيلم أو مسرحية، بل يعيشون حياتهم على طبيعتهم دونما تكلف).
الآخر: صحيح، ولكن هناك مشكلة بسيطة أتمنى لو تُعالج.
الأول: ما هي؟
الآخر: بالنسبة للفتيات، ملابسهن غير محتشمة؛ تبرز مفاتنهن، وتكشف الكثير من عوراتهن.
الأول: (بتثاقل) رُبّّما، ولكن الشباب يتعاملون معهن باحترام يسجل لهم بالتقدير والإعجاب؛ كأنهن أخواتهم.
الآخر: فعلاً، فلانة كانت حزينة لأن زميلها مرشح للمغادرة؛ أرأيت كم كانت أنيقة وهي تداعب شعره بأصابعها، وتهوّن عليه فتلقي برأسها على صدره، ثم تحمل بيديها الناعمتين منديلاً تجفف به دمعات الحزن التي ذرفتها عيناه.
الأول: وفلان كان رائعاً وهو يلاطف فلانة، أرأيت كيف يودّعها؛ يشبك أصابعه حول رقبتها، ويضع رأسه على رأسها، ثم يشتد حزنه على فراقها المتوقع فيحتضنها بقوة، وبحنان يدغدغ ظهرها بلمسات يدين تتأرجح يمنة ويسرة.
الآخر: شيء عجيب يا أخي، الروعة في البرنامج، استطاع أن يجمعهم على المحبة والأخوة.
الأول: نعم، والأعجب من ذلك أن كل الناس منشغلون به.
الآخر: صدقت، (ثم يرتفع صوت الإعجاب لديه قائلاً) تصوّر، يُقال أن عدد الاتصالات التي انهالت على البرنامج بلغت أكثر من سبعين مليون اتصال!!.
وهنا لم أعد أسمع لهما أي صوت، ليس لأنهما أوقفا الحوار، بل لأنني صعقت مما سمعته من سُخف وفَلَس ومهازل يندى لها الجبين، وصعقت أيضاً عندما سمعت الرقم؛ (رسمته في مخيلتي بالأرقام 70.000.000)، ومباشرة حملتني ذاكرتي إلى استفتاء قديم أُجري بشأن الحرب الأمريكية على أفغانستان، فكان إجمالي عدد الاتصالات لا يتعدى الثلاثة ملايين!! أذهلني الفارق، فغبت بذهني عن الموجودين ورحت أبحث متأملاً تفاوت اهتمامات الناس في قضايا الأمة، فماذا وجدت؟ وجدت الآتي:
- استفتاء لجريدة الوطن السعودية: (كيف تنظر إلى المقاومة العراقية؟ هل هي: حركة شعبية؟ حركة إرهابية، تسيطر عليها القاعدة؟ تسيطر عليها بقايا النظام السابق؟)؛ (1163) صوتاً.
- استفتاء لجريدة الشرق الأوسط: (هل تؤيد إصلاحات جذرية في هيكل وأسلوب وأهداف عمل جامعة الدول العربية)؛ (215) صوتاً.
- استفتاء لجريدة الرياض: (هل تصدق الأخبار المتبادلة عبر منتديات الانترنت؟)؛ (2134) صوتاً.
- استفتاء لجريدة الصباح الفلسطينية: (هل توافق على قيام شخصيات فلسطينية وإسرائيلية بتوقيع اتفاقيات سلام غير رسمية في جنيف)؛ (121) صوتاً.
- استفتاء لجريدة الدستور الأردنية: (بعد أن اعترفت الإدارة الأمريكية بعدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق، هل برأيك أن الرئيس بوش: كذب على الشعب الأمريكي والعالم؟ أم لم يكذب لأنه لم يكن يعلم أن المعلومات الاستخباراتية كانت ملفقة؟)؛ (3293) صوتاً.
- استفتاء لجريدة الوسط البحرينية حول (مسألة إعادة النظر في مناهج التربية الإسلامية في المدارس) ؛ (3813) صوتاً.
بالطبع عزيزي القارئ لست في حاجة لإجراء عملية حسابية لمعرفة إجمالي الأرقام المسجلة لكافة القضايا أعلاه، ومن ثم مقارنتها بالسبعين مليون اتصال التي نالها واحد فقط من تلك البرامج، فلا مجال مطلقاً للمقارنة.
، ولعل الأهم من ذلك أن أطلعك على تلك العبارة المخيفة التي سمعتها، في نهاية الجلسة، من صديقي صاحب الدعوة، إذ سألني: فيمَ سرحت؟ فبدأت أخبره بذلك الحوار،
وقبل أن أكمل قاطعني وأطلق تنهيدة حزينة وقال: (يا أخي عظّم الله أجرك). (ظننته خرج عن الموضوع) قلت: فيمَنْ؟ قال: (في طُهر الأمة وعفتها).
|