الطلاق.. أبغض الحلال عند الله، وهو في الاسلام مضبوط بضوابط تشكل سياجاً منيعاً لحماية أهدافه النبيلة وغاياته الشريفة وأهمها العدل وسلامة الحياة الأسرية، فهو بهذه الصفة تشريع رحيم من الله سبحانه وتعالى في سبيل تقويم مسيرة الحياة في المجتمعات، ومن المؤكد أن هناك أسباباً موضوعية للجوء الى الطلاق بالنسبة للرجل والمرأة على حد سواء، منها على سبيل المثال العقم أو المرض أو الهجر أو استحالة التوافق، وقد جعل الشارع الحكيم العصمة بيد الرجل، ولكنه لم يحرم المرأة من طلب الانفصال عن طريق الخلع، ولأن الهدف من الطلاق هو تحقيق سلامة العلاقات الاجتماعية والخوف من الاضرار بطرف من أطرافها بدليل أنه أحيط بضوابط تقيده في هذه الدائرة من حيث العدد حيث لا تبين الزوجة من زوجها إلا بعد ثلاث طلقات، ومن حيث الشروط التي لابد منها لايقاعه مثل تحديد ألفاظ معينة وكيفيات معينة ليكون صحيحاً، ومن حيث الزمان الذي يقع فيه وغير ذلك مما يجعله محكوما بدائرة ضيقة هي دائرة الحاجة أو الضرورة، ولكن عندما تزداد نسب الطلاق بشكل ملحوظ وتصبح الأسباب الكامنة وراء الطلاق تافهة وصغيرة ومزاجية، يصبح القلق على وضع المجتمع بكامله مسألة مشروعة، ويصبح من المفروض البحث والتقصي عن سبب العلة ومعالجتها، وأولىالخطوات علينا أن نفتش عن الأسباب.
وفي رصد لنسب الزواج تبعاً لعدد السكان نلاحظ بأن الكثيرات من فتياتنا يقعن في فخ العنوسة.. رغم أن التوازن بين الذكور والاناث مقبول، فهل يمكن أن نتلمس بعض الأسباب؟ لا نستطيع أن نحيط بالأسباب كلها في هذه العجالة فهي كثيرة ومتشعبة، بعضها مبرر والكثير غير مبرر، ويبقى للأسرة دور مهم في ذلك، فكثرة الطلبات المظهرية وتحميل الشاب المقدم على الزواج (وهو في أول الطريق لتأسيس بيت وأسرة) أعباء لا يستطيع تحملها يجعله يحجم عن الزواج، وهذا خلاف الحكمة من الزواج التي بينها الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال:(إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه).. ولنا أن نتصور لو التزمنا بهذه الحكمة المثلى كم من الخير سوف يصيبنا؟ كما أن كثيراً من الشروط التي تضعها الفتاة على زوج المستقبل، شكلاً ومضموناً أكثرها ينبع من نظرة حالمة وغير واقعية، يجعلها ترفض من يتقدم لها المرة تلو المرة بانتظار الأفضل الى أن يفوتها القطار ويبدأ العد التنازلي والندم حين لا ينفع الندم، وما من شك أبداً في أن لجوء الرجل في كثير حالات للارتباط بالزواج من أجنبيات يأتي مسلحاً بتبريرات عديدة أكثرها غير واقعي له الأثر في عزوف الرجال عن الزواج من فتيات الوطن، ويبقى قرار الزواج بيد الرجل، فهو الذي يختار وهو الذي يعرض وهو الذي يتقدم، أما الفتاة في كل الأحوال فهي المنتظرة نصيبها، وموافقة أهلها ورضاهم، وفي زيارة الى دواوين المحاكم الشرعية وبالاطلاع على جدول قضايا الطلاق ورصد عدد الزيجات اليومية وما يقابلها من حالات الطلاق وملاحظة القفزات الواسعة والخلل غير المبرر في ميزان النسب نقف نتساءل.. هل السبب في ذلك ظروف الحياة الاقتصادية، وقسوة الحياة، واختلال الميزان بين الوارد والصادر فقط ؟.
علينا أن نعترف ان الظروف الحياتية الاقتصادية على وجه الخصوص لها الأثر في ذلك لكنها ليست وحدها المسؤولة فهناك أسباب كثيرة يجب أن نواجهها بشجاعة وصراحة كي تستقيم المعادلة، أولها التقاليد والعادات الاجتماعية وسلطة الأسرة التي تفرض علاقات معينة بين الزوجين لا تخرجهما من دائرة سلطة الأهل المعنوية والمادية، فالسلطة الاقتصادية حتى في معايير الدول هي التي تفرض القرار، وغالباً ما تفرض الظروف على الفتاة ان تتزوج دون رضاها من اختاره لها أهلها دون الرجوع الى موافقتها مخالفين ما نصت عليه الشريعة الاسلامية السمحة، والظروف أيضا قد تفرض على الشاب أن يتزوج دون رضاه، ويقيم في بيت أهله لتبدأ بعد حين مشاكل لا تعد ولا تحصى منبعها وأساسها الاختلاف في بيئة حياة الزوجة والزوج وما تربيا عليه وبين المستجد على حياتهما وهنا أيضا يلعب عدم الوعي والجهل الدور الأكبر في تعميق الفجوة الى درجة النفور ويحدث الطلاق، ومن المهم ان نذكر بأن الابتعاد عن تعاليم الشريعة في تلمس أسباب المودة والرحمة بين الزوجين وتحقيق الأهلية المطلوبة والقدرة لها أثر أيضا في تكريس التباعد العاطفي بين الزوجين الموصل الى الطلاق، وقد وهبنا الله سبحانه نعمة العلم كي ننمي مداركنا، وبين لنا محكم الشريعة أهم الروابط لبناء أسرة وللمحافظة على البناء كي نجعل من حياتنا حديقة معرفة لا وسيلة تسلط، ومتى أرادت المرأة فرض نفسها قوّامة على الرجل تختل معادلة التوافق بالحياة، وبدلاً من أن تكون المرأة ممثلة للأمان والهدأة والاستقرار تصبح عبئاً، ومتى فرض الرجل مركزه بالتسلط والقسوة والعنف تفقد الأرواح رغبة الحب بالتدريج.
الزواج عقد تعاون ورحمة ومحبة وتفان بين الزوجين، وهذا التعاون يفرض نكران الذات فلو كانت المرأة عاملة فيجب على الرجل أن يساهم في المساعدة بشؤون البيت، دون حرج، وقد كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يساعد أهل بيته ولا غضاضة، أما أن يلقي الرجل بأحماله على المرأة في البيت والعمل وفي كل أمر فهذا ضرب من ضروب الظلم قد تتحمله الزوجة في سبيل استمرار الأسرة ولكن كثيرات يصلن الى حدود اليأس، عندها بعد استحالة اصلاح الحال يحدث الطلاق.
التربية الجنسية الخاطئة لها الأثر الأكبر في فشل الزيجات، وبخاصة تلك التي تتهاوى باكراً ومن هذه نسبة كبيرة فكم من زوجة طلقت بعد أشهر أو أقل أو أكثر من زواجها، وهذه النسب تتساوى تقريبا بين الطلاق لرغبة الزوج أو لرغبة الزوجة، فالرجل أو المرأة يحملان في دواخلهما صورة خاطئة عن العلاقة الجنسية بين الزوجين بسبب تراكمات اعلامية مقروءة ومنظورة ومسموعة مفتوحة على مصراعيها عبر وسائل الاعلام المختلفة، وهي مع الأسف وسيلة المعرفة المتاحة بغياب المعارف الأخرى السليمة، يتزوج الرجل وفي خيالاته صور كثيرة كما في مخيلة الفتاة لا يدركان بأنها صور خاطئة وعابثة، لكنهما أمام لحظة الحقيقة يصطدمان بالواقع، ولأنهما جاهلان في مبادئ التربية الجنسية القويمة يبدأ التصور بأن الشريك هو الغلط وليس المتراكم زيفاً في باطنهما، وأن الشريك هو المختلف وهو الشاذ بينما يكون الآخر الغريب هو الصحيح، وهذا سبب مهم علينا أن نواجهه بصراحة وجرأة ودون وجل، فقد دخلت بيوتا كثيرة، واجتمعت الى سيدات مطلقات ومن خلال الحديث والمصارحة تبين لي أن هذا السبب بالذات له كبير أثر في فشل كثير من الزيجات، ناهيك عن تجاهل (الرجل الزوج) أحاسيس المرأة وعدم الالتفات الى أنها كائن أيضا ولها حاجات كما الرجل.
وليس من شك في أن الثقافة العامة لها دور كبير في التوعية، فهل نجدها في نتاجات المبدعين والدارسين والباحثين المتخصصين؟ ومن المؤسف حقا أن أقول بأنني ومن خلال كثير من قراءتي ومتابعتي للمشهد الثقافي اقليميا وقوميا وعالميا خرجت بتصور مخيف عندما شعرت بأن البناء الثقافي والاعلامي في كثير من الانتاج الفكري يقوم على أساس رومانسية مطلقة بعيدة عن الواقع وعلى اعتبار أن كل رجال الأرض (الغرباء) أفضل من الزوج، وكل نساء الأرض (الغريبات) أفضل من الزوجة، وعندما يتمكن هذا الاحساس من الزوج أو من الزوجة وعندما يشعر أحدهما أن نصيبه والرحمة، وتقتصر الحياة على الماديات، تبرز أنياب المشاكل، وفي المقابل عندما تفقد الحياة لمسة التقدير والاحترام بين الزوجين، وتفتقد لحظات الحب والصفاء وفسحة الروح بينهما ولو من خلال لحظات قصيرة بين وقت ووقت تصبح الحياة أيضا مغلفة بالسواد، وعندما تسيطر ال(أنا)، على الزوج أو على الزوجة، وتفقد العلاقة بين الزوجين روح التعاون تتفكك العرى وتقف الأسرة على شفا الانهيار، وفي كل الأحوال يتأكد للجميع أن الأسرة نواة المجتمع.. بصلاحها يصلح المجتمع كله، فهل يتحقق الوعي من خلال سلوك المعرفة القويمة؟ وهل نجد اهتماماً من المتخصصين في تعليم الناشئة فن الحياة الزوجية.
الرياض-فاكس 014803452 |